كتب الدكتور منصف المرزوقي منذ التسعينات عن "الطيف الاسلامي". وهو يقصد بذلك تنوع مشارب الاسلاميين ومواقفهم واتجاهاتهم. وقد اشتهرت تلك الجملة: "من طالبان لأردغان".
ويبدو أن داخل الطيف أطياف. وهو أمر مفهوم لحد ما عندما نتحدث عن الظواهر الاجتماعية ومنها السياسية. فالحدود ليست على شاكلة الحدود التي اخطتها الاستعمار في بلداننا، وإنما هي كما في الواقع متداخلة تحكمها المواريث الثقافية وحركة المد والجزر للبشر.
مناسبة كلامي، هو أنني قرأت لصديق ( يتهم هو أيضا بأنه اخوانجي، وإن كان قد ترك "الجماعة" منذ أيام الجماعة في سنواته الثانوية أواخر السبعينات) يشتكي من تهجم نهضاوي عليه.
ومع أن الصديق يعرف أن ذلك النهضاوي لا يمثل "أغلبية شرفاء النهضة" على حد قوله، إلا أنه لم يتحمل هجومه، مما اضطره للكتابة عنه ونشر منشوره واسمه على صفحته!
الطريف أنني قرأت أغلب تعاليق أصدقائه، فوجدت أن أغلبهم نهضاويون، وفيهم أصدقاء كثر مشتركون بيني وبينه. والأطرف أن بعض أولائك لم "يقصر" في الهجوم على ذلك النهضاوي!
والمناسبة الأخرى هي هجوم من داخل الطيف النهضاوي على صديق آخر، قضى زهرة شبابه، والشرخ الأهم من كهولته، مناضلا نهضاويا، "تمرغ" في كل أهوال الطريق، ثابتا ومعتزا وربما مغاليا في اعتزازه. وقد التقيته بعد طول فراق، ووجدته يتقد حماسة، لم يتحمل فيها مواقفي النقدية في تلك الأيام. لم يكن مجرد مناضل عادي في الحركة، كان قياديا ومثقفا عضويا، ممتلئا وعيا ويحتل مكانة محترمة جدا ... يسمع صوته إذا تكلم ويقرأ بتأمل ما يكتب. ولو استسلم لرغبات بعض المسؤولين فيها، لكان تموقع أين يريد. لكن صديقي هذا، رأى أن يراجع موقفه وموقعه، واتخذ مسافة تزداد مع الأيام بعدا، وبدا له أن يتحرر مما كان عليه، وأن يطلق العنان لرأيه يصدح به متى عن له ذلك، ورأى أن يكسر الحدود التي كانت تمنعه من ذلك من قبل ... ولأن مزاجه يميل للحدة، فليس بإمكانه أن لا يستصحب ذلك في تحوله ... فالطبع يغلب التطبع ...
هذا الصديق العزيز، كما يحضى بأنصار كثر في الطيف النهضاوي، ومنهم جيله الذي عاش معه سنين الملح والدمع ... يتحاورون معه، ويردون عليه ويرد عليهم، ويقبلون منه ويقبل منهم، ويعرف ويعرفون كيف يتجاوزون مضايق الاختلاف وانزلاقاته النفسية ... إلا أن آخرين من داخل الطيف، وممن ربما لم ير نور الحياة بعد لما كان هو في "غيابات الجب" ! لا يدخر جهدا في الهجوم عليه ...
حاصل القول أن الفضاء الأزرق، يعج بذلك الطيف الذي تكاد تقول أنه مخصص له ... يخيل إليك ظاهرا أن هناك فرقا وجماعات، ولكنك في الواقع أمام أبناء كيان واحد ! وإن كان فيهم من "يكفِر بمطلق المعاصي" ومن "يكفِر بالكبيرة" ومن هو في "منزلة بين المنزلتين"!
لكنني أريد أن أختم بزاوية إيجابية، وهي بينة ساطعة يحاول غمطها المغرضون، وينساها المختلفون في زحمة الجدال: هؤلاء النهضاويون نشؤوا على القبول بالاختلاف وإن تطرف بعضهم، ونشؤوا منفتحين على الآخر، ونشؤوا بعيدين عن الاستسلام للآخر مهما علا كعبه ومكانته ... وقد رضيت منهم قيادتهم بذلك، بل إنها ساهمت مساهمة فعالة في تنشئتهم على ذلك، وعلى رأس أولائك الشيخ راشد الغنوشي، الذي كان يقبل حجاجهم ومعارضتهم، ويتحمل نقدهم وقسوتهم في النقد .... وقد تحمل هو ومن معه في قيادة الحركة القبول بالتعايش في ذلك المناخ، على استسهال المفارقة والتفرق، وقد حموا بذلك الحركة وتونس من ظهور حركات متطرفة فكريا بلبوس سلفي مغال، أو متطرفة عمليا بنزوع نحو العنف والإرهاب ... وهم وإن لم يمنعوا ظهور ذلك، فإنهم استطاعوا أن يجعلوا تلك النزعات ضعيفة وهامشية، ولم تتوفر لها الفرصة إلا في غيابهم وفي أجواء الحملة الاستئصالية عليهم ...
فيا أيها الطيف النبيل، رفقا ببعضكم، ورفقا بتونس، وكونوا كما كنتم، مثالا للتعايش، واحترام المقامات، والقبول بالرأي والرأي الآخر.
تاريخ أول نشر 2025/1/15