search

العرب ..

نواجه، نحن العرب، مرحلة مفصلية مصيرية من تاريخنا. ومن المفترض أن يكون جيلنا، الذي واكب أهم تحولات تاريخنا الحديث، الأكثر تأهيلا، سياسيا ومعرفيا، للمساهمة في فهم ديناميات المرحلة.

بل أن هذا الجيل، "جيل الاستقلال المغشوش الذي تحول استبدادا فرديا منحرفا واستعمارا بنيويا شاملا، والثورات المجهضة التي تحولت حروبا داخلية مفتوحة"..، أمام فرصته الأخيرة لتدارك خيباته هو وهزائم جيليْ الآباء والأجداد. الأجداد الذين واكبوا نكبة الاستعمار المباشر ونكبة فلسطين 1948 ورحلوا بغصّتهم، والآباء الذين عاشوا هزيمة 67 ونصف نصر 73 الذي تحول إلى أكبر من هزيمة بمعاهدة كامب دافيد المخزية..، ورحلوا مقهورين، قبل أن يحمل عنهم جيلنا كل ميراث القهر والهزيمة. ميراث كرّسنا كل حياتنا في محاولة "تفهّمه وعقله" بمقاربات ايديولولجية ثورية مختلفة. ثم حاولنا التخلص منه بحماس شبابي صادق بالانتفاض في وجه الدكتاتوريات في محطات عديدة.. انتهت بثورات حقيقية مفاجئة للجميع زعزعت أركان الدكتاتوريات ولكنها، في نفس الوقت، رفعت الغطاء عن كل عُقدنا الجماعية وانحرافاتنا العميقة فآنخرطنا في حروب أهلية طفولية بائسة أتاحت الفرصة للاستعمار والاستبداد لملمة صفوفهما واستعادة مواقعهما والانتقام منا.

الآن.. ندخل فصلا جديدا نوعيا جدا من تاريخنا: التحالف الاستعماري العالمي المكوّن من صهيونية توراتية عنصرية نازية ومن ولايات متحدة أمريكية يحكمها لوبي رأسمالي صهيوني مسيحي عنصري نازي..، هذا التحالف قرر بوضوح قبر نظام العالم الذي تشكّل بعد الحرب الامبريالية الثانية بما فيه من تقسيم جغرافي استعماري للوطن العربي ومن قانون دولي ظالم تتمتع فيه دول استعمارية كبرى بحق القوة(الفيتو).

هذا التحالف الصهيوني الأمريكي الجديد قرر ببساطة توسيع حدود الكيان على حساب الجوار العربي. يعني لم يعد يقنع بتنصيب أنظمة حكم عميلة أو خانعة تضبط شعوبها وتمنعها من تهديد أمن الكيان وتمنع نخب مجتمعاتها من بلورة مشاريع تقدم ونهضة تخرج مجتمعاتها من التخلف والفقر والتبعية.

المشروع الاستعماري الجديد يتهيّأ للانتقال من إدارة منطقتنا بالاستبداد والاستغلال والنهب غير المباشر عبر الشركات العابرة للحدود والنظام المالي، إلى إدارتها بالاستيطان والإحلال الديمغرافي أي افتكاك الأرض، وهو ما يحوّل كل طبقات الحكم في دولنا إلى هدف مباشر لها.

تحوّل نوعي رأينا ما أحدثه في صفوف النظام الرسمي العربي من بوادر الفزع جعله يدعو إلى قمة عربية مستعجلة.

الراديكاليون منّا يجزمون ببرود وطمأنينة بأن النظام الرسمي العربي مستحيل أن يجرؤ على اتخاذ موقف وطني موحّد للتصدى لمخطط ترامب/الناتن. يقولون أن العمالة والجبن صارتا خاصيتان جينيّتان لكل الحكام العرب.. والموضوع منتهٍ.

أما أنا فلا أقول هذا. رأيي أن الأنظمة العربية تقودها طبقات حكم غير منسجمة، لا سياسيّا وايديولوجيا، ولا من حيث أصولها الاجتماعية الطبقية، ولا من حيث تركيبتها النفسية. والحديث عن "عمالة حتمية.. وأبدية" لا معنى له. لأن عملية "الانتداب للحكم" لا تتمّ بناء على مواصفات الفرد الشخصية بل بناء على "الإدماج الوظيفي الإجباري". يعني قد تكون إسلاميا أو قوميا أو شيوعيا، ولكن موقعك الوظيفي في الإدارة الحديثة قد يجعل منك، رغما عن هويتك، عضوا في نظام حكم عميل غير وطني مناقض لكل قناعاتك.

بناء على هذا المعطى السوسيولوجي، وبناء على أن طبقات الحكم في دولنا العربية حاليا تتكون أساسا من أجيال القهر والهزيمة وأحلام الثورة، وبناءً على أن خطة التحالف الاستعماري الجديد عارية تماما من أي اعتبار دبلوماسي ولو شكلاني، وأنها خطة لم تترك للنظام الرسمي العربي منفذا للمناورة، رأيي أن تتكثف الآن المبادرات الشعبية السّاندة لطبقات الحكم المحاصرة لمساعدتها على "التحوّل" العسير من العمالة إلى الصمود.

دون ذلك..، مجتمعاتنا، المفككة سلفا أهليّا، ستجد نفسها في مهب التاريخ.

سيقول الراديكاليون "رب ضارة..."، دع الاستعمار يذيق أنظمتنا المستبدة قليلا مما أذاقتنا من عذاب! ولعلها فرصة شعوبنا للتخلص من "وهم الدولة" الذي جثم على صدورنا عقودا.. فنجد أنفسنا أمام فراغ تاريخي ينقلنا إلى بداية ما..!!!

وسأقول.. التاريخ ليس لعبة قمار...

تاريخ أول نشر 2025/2/10