1. المهاجرون العرب الأوائل إلى الغرب كانوا في أغلبهم أميّين. خرجوا من القرى والأرياف ومن مدنٍ هزيلة إلى مدن أوروبّا الصاعدة بثروات المستعمرات، فانبهروا وأعشتهم أضواؤها وفقد كثيرون منهم توازنهم. وبين الأميّة والانبهار لم يجدوا سبيلا إلى الاندماج، فظلّوا على الهامش. الذين ذهبوا إلى الغرب للدراسة انبهروا كذلك. ومنهم من خلع عمامته كما فعل رفاعة رافع الطهطاوي في القرن التاسع عشر عندما خرج في بعثة إلى فرنسا. وانبهر من بعده طه حسين.
2. سيّد قطب كان من القلّة الذين ذهبوا إلى الغرب حاملين "شوكة" النقد. وقد لخّص موقفه في كتابه "أمريكا التي رأيت". عاد من هناك بأفكار نقده الجذريّ للغرب (سيّد قطب يحتاج إلى قراءة أخرى تخرج من التشويه الناصريّ).
أمرٌ ما، في ذهني، يصل ما بين سيّد قطب وجُبران خليل جُبران. هما، في فهمي، متشابهان. الأمر فرضيّة أراها تحتاج إلى تفصيل بحثيّ قد ينتهي إلى إثباتها. جبران حفظته مسيحيّتُه في واحة الأدب. وحفظه أنّه كان أمريكيّا يكتب بالعربية. بينما التحف سيد قطب بالإسلام وبالقرآن واقتحم السياسة بمعناها الشامل فأحرقته بنيرانها وأودت بحياته. وحرمت الدولة الوطنيّةُ الأمّةَ من مفكّر فذّ قلّ نظيرُه. ما أحدسه أنّ الرجلين، رغم بعد ما بينهما من فروق، يصدران عن روح واحدة.
3. الغرب احتال على العرب ليصنع لهم عروبة مناسبة له استعان بها على وضع نهاية لعدوّه اللدود، الخلافة العثمانية. أنجلترا استدرجت العرب إلى الاستقلال بعروبتهم عن العثمانيّين ووعدتهم بأن تجعل الخلافةَ فيهم فقتلت الخلافة ومزّقتهم لتتقاسمهم الدول الأوروبية. كان احتيال الغرب الكولونيالي على العرب مرتين: مرّة حين استعملهم لكسر الخلافة الجامعة، ومرّة حين وضع عليهم يده في العراء، يقمع الناس وينهب الثروات. فلم ينج من العرب أحد. ولا يزالون إلى حدّ الآن تابعين له.
4. مع حلول القرن21 صار العرب المسلمون في بلاد الغرب مختلفين عن أسلافهم. مع إتقانهم للغات دول المهجر عرفوا إسلامهم. وصار الإسلام متعدّيًا باللغة منهم إلى مواطنيهم هناك. وصار منهم من يحاجج ويكسب في حجاجه وهو يدافع عن دينه. الإسلام صار مكوّنًا لا يستهان به في المجال الغربيّ الذي يُحترَم فيه الإنسانُ.
أمّا الدولة المسماة وطنيّة، في النطاق العربيّ، فقد أفسدت الإنسان وشوّهت الدين حتّى صار الإسلام قرين التخلّف والظلامية.
جنحت الدول العربيّة، على اختلافها، إلى إنتاج إسلام طقوسيّ متخلّف فقير إلى أبسط مقوّمات الجمال ولا يُقْنع من الشباب أحدا. حتى أن كثيرا من شباب العرب عرف الإسلام خارج الأقنية الرسمية. وصارت النخبُ العربية تستند إلى نسخة الإسلام الشائهة تلك التي تنتجها الدولة لتتبنّى القول بظلاميّة الإسلام وإن جبُنت عن التصريح بذلك. لقد تبنى هؤلاء رؤية المستشرقين للإسلام. فالإسلام في فهمهم دين عنف وانغلاق، يجدون ذلك منطوقا في كتابه، القرآن. ولكنّهم يحتالون فيفرّقون بين المسلم الذي يجعل الدين شأنا شخصيا شبيها بدين الكنيسة، وهذا المسلم لا يعدو كائنا افتراضيّا، وبين الإسلاميّ الذي يرى الدين موصولا بحركة الحياة. بل يذهب التّطرف ببعضهم إلى نفي الإسلام عن الإسلاميين. لقد قرّروا بأنفسهم أنّ المسلم غير الإسلامي. وذلك ضرب من التكفير. وبمثل هذه التفرقة العنصريّة تمكّنوا من تجفيف منابع الإسلام تلك التي يكتفون بقراءتها في منطوق الكتاب ويرفضون تنزيلها على الوقائع. لا معنى للهويّة في خطاب هؤلاء، ذلك أنّ الهويّة ماهية والماهية تأتي لاحقا تُصنَع صناعةً.
5. العرب المسلمون في الدول الغربيّة قرأوا الإسلام بعيدا عن أدوات التسلّط الذي تمارسه الدولة الوطنية في النطاق العربيّ، فحرّروا الدين وتحرّروا به. استفادوا، في فهمهم لإسلامهم، من الحرية والديمقراطية واكتسبوا بفهمهم وسلوكهم احترام مواطنيهم. مع ترقّيهم في العلم والمال والأعمال صاروا أكثر تشبّثا بهويتهم وهويّتُهم الجامعة هي الإسلام. وإسلامهم لا يتناقض مع اعتزازهم بانتمائهم الغربيّ. منعوهم من الاندماج. رفضوا الذوبان واندمجوا على طريقتهم. وصاروا رقما صعبا.
تجد مثلا فتاة سويسريّة من أصل تونسي تقبل على الزواج من شابّ أمُّه هندية ووالده إفريقيّ لمجرد كونه مسلما ويقبل أهلها به في الوقت الذي لو أن شابّا من مدينة صفاقس، مثلا، اختار أن يرتبط بفتاة من سيدي بوزيد للقي من اعتراضات أهله ما لا يستطيع دفعه. استطاع الإسلام الأوروبي أن يجمع بين الأوروبيين المسلمين في حين فشل إسلام الدول العربية في ذلك. لقد منعت الدولة الوطنية الناس من أن يجتمعوا ولو في الجوامع.
6. مشاهد صلاة العيد في أوروبا لا شكّ في أنها باتت مزعجة للدوائر المتحكّمة هناك. الإسلام هو الدين الوحيد الذي تتطوّر نسبة المنتسبين إليه. قد لا يعني الكمُّ شيئا كثيرا. ولكنّ الكمَّ قد يجلب معه النوعَ. هؤلاء الذين يصلّون العيد بعشرات الآلاف ليس منهم واحد إلا وقلبه معلّق بغزة ومن ورائها المسجد الأقصى.
7. وهذا في ظنّي غير منفصل عن مشاهد التهجير القسريّ الذي تمارسه سلطات بعض الدول الاوروبية ضدّ المهاجرين العرب هناك بمتقضى اتفاقيات سرية بينها وبين بعض حكّام الدول العربيّة. لقد حوّل الحاكم العربي الدولة إلى سجن كبير حشر بداخله الناس فلا هو أطعمهم ولا هو تركهم يسيحون في الأرض ليبحثوا عمّا يأكلون. وقد تعلّمت تلك الدولة الأوروبيّة من الدول العربية كيف وجب أن يُعامل المواطنُ العربيُّ المستجيرُ بها. دول الغرب كانت تجير من يستجير بها عملا بقوانينها التي تحترم الإنسان. اليوم صارت تشحن المهاجرين إلى دولهم وهي تعلم أنّهم إذا أعيدوا إليها فقدوا كثيرا من بشريتهم. فهي تعاملهم فوق أرضها بسلوك دولهم معهم. وبخلاصها منهم تتخلّص من إسلام بات يزحف عليها داخلها.
تاريخ أول نشر 2025/4/3