((كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول: أكل كبدي عمرُ، يعلّم الكلابَ الآدابَ))
"مقدّمة ابن خلدون - فصل في أنّ العرب أبعد الأمم عن سياسة المًلك"
1. أن تكون عربيّا، معتزّا بعروبتك لا يعني ألّا تحاول أن تُعمل عقلك ما استطعتَ وأن تسائل كلّ شيء، ولا تسلّم، قبل النظر، بشيء. التعصّب أعمى، وأنا أحبّ أن أبصر، بعيدا عن الخنادق الإيديولوجية القديمة.
حين أتحدّث عن العرب فأنا لا أقصد الإيديولوجيا القوميّة. تلك مسألة أخرى. ليس القوميّون أولى بالعروبة، وليس الإسلاميّون أحقّ بالدين، وليس الشيوعيّون أجدر بالعدالة الاجتماعية، وليس الليبراليون أحقّ بالحرية من غيرهم. مطالب جميع هؤلاء نبيلة، ولكنّها لم تحقّق، في مجالنا العربي، من نبلها شيئا. تحوّلت إلى خنادق كلّ خندق منها يتغذّى على مناكفة الخنادق الأخرى باعتبارِهِ نفسَه الخندقَ الناجِيَ الوحيدَ. حتّى كانت الدول أشبه بساحات حروب بين المقيمين بأرضها.. وكلّ "دولة" تتحصّن بخندقها من خنادق الجوار.
2. لم يكن للعرب في التاريخ كيان سياسيّ ناظم. إذا تُرك الأمر لهم لم يكونوا أكثر من قبائل متناحرة، ولم يزالوا. الدول القائمة ليست أكثر من قبائل ولكن في صيغة "حديثة".
هل هذا قدَرهم في السياسة والحكم؟
لا أدري، ولكنّ التاريخ حدّثنا بذلك.
كان العرب قبل ظهور الإسلام قبائل متناحرة وانتهوا بعد نهاية "الإسلام السياسيّ" (الخلافة) إلى "دول" متناحرة. الدول حلّت محلّ القبائل، لبست لبوس الحداثة وروحها قبَليّة.
بريطانيا الكولونياليّة هي التي أغرت العرب بعروبتهم السياسية عندما شجّعتهم على النأي بأنفسهم عن الدولة العثمانية وصناعة هويتهم القوميّة السياسية بعيدا عن الجامعة الإسلامية.
مستعربو بريطانيا هم الذين ابتدعوا "الثورة العربية الكبرى" للتخلّص من "الاستعمار" التركي والحلول مكانه، وهم الذين ابتدعوا القوميّة العربيّة لمحاربة فرنسا في فلسطين. ذلك أنّ فرنسا كانت أوّل رعاة دولة اسمها "إسرائيل" في فلسطين. بدأ الأمر مع غزو نابليون بونابرت عام 1799 لمدينة عكا، حينما دعا لإقامة "وطن قومي" للجماعات الصهيونية المشتّتة في مختلِف أنحاء العالم وتجميعهم في فلسطين، وقد كانت تلك الجماعات تمثّل معضلة مستمرّة للدول الأوروبيّة التي كانت تبحث لها عن طريقة للتخلّص منها. كانت دولة "إسرائيل" مشروعا بدأته فرنسا وأكملته بريطانيا بوعد بلفور الشهير.. ثمّ تولّت أوروبا والغرب جميعا رعايته باعتباره مشروعهم الذي يسيطرون به على المنطقلة كلها.
3. في الحرب العالمية الأولى انحازت الدولة العثمانيّة إلى جانب ألمانيا، وقد أزعج ذلك بريطانيا التي خشيت من ثورة المسلمين ضدّها، ّ لو أنّ العثمانيين خرجوا من الحرب منتصرين.
كان انتصار الدولة العثمانية احتمالا مطروحا، وكان من شأنه أن يحييَ فكرة الوحدة العربية أو الإسلامية عند العرب والمسلمين، وفي ذلك تهديد للوجود البريطاني في المنطقة وآسيا بأكملها.
ولقد أكدت هذه المخاوفَ مذكَّرةٌ استراتيجية أعدَّتها الدائرة السياسية في حكومة الهند البريطانية، حذّرت فيها من " ثورة المسلمين في مصر والهند ضد الوجود البريطاني، وإحياء فكرة الوحدة الإسلامية مجددا". ورأت تلك المذكّرة أنّ الحلّ لا يكون إلّا بالعمل على زعزعة استقرار الدولة العثمانية وإضعافها من الداخل للحيلولة دون تلك المخاطر المحتمَلة. وترجمةً لما ورد بالمذكَّرة أخذ المندوب السامي البريطاني في مصر "هنري مكماهون"، في مراسلة الشريف حسين بن علي سنة 1915، لتشجيعه على الثورة ضدّ العثمانيين، ووعدوه بتنصيبه خليفة على المسلمين.
وفي 30 أوت سنة 1915، بعث هنري مكماهون رسالة تحريض إلى الشريف حسين، جاء فيها "إن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحّب باسترداد الخلافة إلى يد عربيّ صميم من فروع تلك الدوحة النبويّة المباركة".
5. قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، وقّعت بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية سرًّا، سنة 1916، على ما سمي بـ"اتفاقية سايكس بيكو"، التي تمّ بموجبها اقتسامُ تركة الدولة العثمانية، وقد اتّفقت الدول الموقّعة على أن تبقى الاتفاقيّةُ طيَّ الكتمان، كي لا يعلم زعماء العرب بها حتّى انتهاء الحرب. ولمّا كشفت الثورة البولشيفية عن تلك الاتفاقية لم يغيّر ذلك من الأمر شيئا.. لأنّ حيل البريطانيين كانت أكبر من فهم العرب.
لقد استعملت القوى الكولونيالية الأوروبية المتنافسة العنصر العربيّ في القضاء على الخلافة العثمانية. ولم تفِ بريطانيا بأكثر من وعد بلفور الذي جعل لليهود دولة على فلسطين تكون مضادّا لأيّ اتّحاد محتمل بين عرب لا يجتمعون إلّا بوازع خارجيّ. أمّا الدول المزروعة في البيئة العربية حديثا فلم تكن أكثر من قبائل لكلّ قبيلة منها رئيس. ولأنّ الرئيس في القبيلة العربية "الحديثة" مقدَّم على القبيلة كلّها فهو مانعها من أن تتّحد مع أخواتها. الحاكم العربيّ مكلّف بمهمّة واحدة: أن يحفظ مصالح موكّليه. وله بعد ذلك أن يصنع ما يشاء.
6. حيلة أخرى احتالها الغرب الكولونيالي على العرب، تتمثّل في نزع عامل وحدتهم الوحيد من أذهانهم. لقد دعاهم إلى إخراج الدين من معادلتهم السياسية لكي لا يكون "للكنيسة" دورٌ في الحكم يمنعهم من التطوّر. وفي غمرة الانبهار بأفكار الحداثة الغاوية تداعى المثقَّفون المنتصرون للقومية العربية إلى صناعة أفكار تحرّم خلط الدين بالسياسة. بذلك جعلوا للأقليات حلولا رأوها في اللادينية ومنعت الأمّة قاطبة من كلّ الحلول. ولم يستأذن أحد من هؤلاء الأمّةَ في شؤون دينها ولا في شؤون دنياها. الحاكم العربيّ التابع صار هو المتحكّمَ في معاش الناس وفي معادهم.
الغرب "نصير" الأقليات لم يساعد من الأقليات غير اليهود جعل لهم فلسطين وطنا. اليهود هؤلاء ليسوا هم يهود العرب. يهود العرب ليسوا أكثر من خَدَم عند اليهود الأوروبيين. غالبية يهود فلسطين الآن هم من خارج النطاق العربي.
لقد صنع الغرب الكولونيالي كيانه الذي سمّاه "إسرائيل" ليتخلّص من العنصر اليهودي في داخله. لمّا فشل في القضاء على اليهود بالهولوكوست الذي صنعته لهم ألمانيا النازيّة شحنهم ليشكّل منهم عصابات تحرس في بلاد العرب مصالحه. ومن مصالح الغرب مَنْعُ العرب من أن يتّحدوا.
7. لم يوحّد العربَ غيرُ الإسلام. الإسلام هو الدين، وليس دينا من تلك الأديان التي رأى فيها الغرب الحديث سبب أزمته قبل الحداثة. لقد كان الإسلام هو المتغيّر الذي أدخل العرب إلى زمن السياسة ممارسةً وتفكيرًا. لم تكن إضافة الإسلام إلى العرب هي الدين، فقد كانوا قبل ذلك يدينون بأديان. إضافة الإسلام إنّما كانت سياسية أوّلا وأخيرا. ومن تلك الإضافة صار العرب متغلّبين فاتحين وصارت لهم امبراطوريّة يخشاها العالم بعد أن كانوا لا شيء. لذلك يمكن للمرء أن يدّعيَ أنّ الإسلام لا يكون إلّا سياسيًّا. معنى ذلك أنّه لا إسلام حيث لا سياسة. ولا عرب حيث لا إسلام. فإن هم طلبوا عروبتهم اعتصموا بحبل الإسلام السياسي.
8. لقد ربح الغرب المعركة ضدّ العرب حين أقنعهم بأنّ خلط الإسلام بالسياسة يولّد الإرهاب آليّا. ورمى جماعات الإسلام السياسي عن قوس واحدة. وعلّم أتباعه أنّ خلطة الدين بالسياسة لا تكون إلا انفجارية تفجيريّة، إرهابيّة. وفي هذا تزييف خطير نرى الأمّة تعاني منه منذ أكثر من قرن من الزمان. وليس أدلّ على التزييف من جعل فلسطين وطنا قوميًّا لليهود، واليهودية دين. صار من حقّ أيّ إنسان، يدين باليهودية في أيّة بقعة من بقاع الأرض، أن يكون له من وطن اليهود نصيب. بينما يُمنع العرب من أن يخلطوا دينهم بالسياسة، وذلك من لعنات الحداثة التي لا تبدو أكثر من ثأر النطاق المسيحيّ من النطاق العربيّ.
9. هل أنا أدعو إلى الخلافة؟
لا أظنّ ذلك. الخلافة اقتراح القدماء لضبط العلاقة بين الإسلام والسياسة في النطاق العربيّ الذي جعل له النصّ القرآنيّ معنى. لست مع استئناف الماضي. الدين، في فهمي، ليس ماضيا. الدين أمامنا. لست أراه حكرا على الذين يدينون به. هو، ربما قدر تاريخيّ جعل لهؤلاء العرب معنى من ضمن المعاني المتنازعة، فإن هم نازعوا بإنكاره لم يربحوا في منازعة. القضية ليس في الإيمان ولا هي في ما كان من منطوق السياسة الشرعية عند القدامى. معركتنا الآن وهنا. والإسلام ما لم يكن مفيدا للعرب الآن وهنا بات عبئا ثقيلا عليهم. وكذلك يريده الغرب لهم.
10. العرب تبعثروا مع الزمن الحداثي، أضاعوا القبلة والهوية وإن هم شغلوا أنفسهم بملاحقة هوية لا تريد أن تكون لهم.
العرب ولدت لهم الاستطاعة بالنصّ. وحين تركوه ليطلبوا الاستطاعة بمجلوبات الحداثة أضاعوا النصّ ولم يستطيعوا الحداثة، وضاعوا. لقد علّمهم ابن خَلدون من قديم أنّهم "لا يحصل لهم الملك إلّا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة" وأنّ "الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوّة على قوّة العصبيّة التي كانت لها من عددها"، ولكنّهم لم يتعلّموا. وفسّر لهم ولم يفهموا. لقد أشادوا بابن خلدون عالم الاجتماع وتركوا السرّ الذي قال لهم إنّ اجتماعهم لا يكون إلّا به.
ولن يكونوا... إلّا به.
إذا اختاروا "طوفان الأقصى" لهم إماما.
تاريخ أول نشر 2024/11/27