قرأت منشورا لأحد المحامين يوجه اعتذارا للقاضي البشير العكرمي وأسرته، يقول فيه أنه صدق ما يقوله وما يعرضه زملاؤه من اتهام القاضي البشير العكرمي من أنه تعمد إخفاء حقائق في إشرافه على التحقيق في مقتل بلعيد كي يبعد التهمة عن حركة النهضة في ضلوعها في دم شكري بلعيد ... بقي اعتقاده "راسخا" في ما تقوله اللجنة حتى التقى سهام بن سدرين التي قدمت له رأيها في العكرمي ونزاهته، ثم قرأ حوارا كان أجراه العكرمي مع أحد المواقع، مما رسخ لديه الموقف المناقض تماما لما تقوله الهيئة ... و جعله يغير اعتقاده "الراسخ" إلى نقيضه ويطلب العفو من العكرمي وأسرته.
هذا مثال لحالات أخرى وقعت بخصوص هذا الموضوع وبغيره من الموضوعات ... رأينا مثلها مواقف حادة جدا كانت تحكم أصحابها من الشيخ راشد الغنوشي ثم انقلبت إلى ضدها بعد سنين عددا و"قناعات راسخة".
هل يمكن أن تقول أن هؤلاء بلا عقل؟ بالقطع لا يمكن أن نقول ذلك ... المحامي الذي غير موقفه رجل قانون، والقضية التي أمامه قضية قانونية بالأساس ... فما حجبه عن استعمال عقله؟
ما حجبه هو كل تلك الأوهام التي لا يخلو من الوقوع فيها إنسان ... هي حالات الحب والكره وحالات الغضب والرضا ... التي تزين لك "الحقيقة المزعومة" وتحجب عنك "الحقيقة الحقيقية" .... هي التي تحجب عنك المزايا أو الخصال الحميدة وتبرز لك السلبيات والوجوه السلبية .... إنها الأوهام أو التحيزات التي تقلب الحق باطلا والباطل حقا ... وهذا كله يحصل في حالات السخط وفي حالات الرضا سواء بسواء ... وهذه الحالات ليس موقعها العقل وحصافته بل القلب ومشاعره وأوهامه وما يحب وما يبغض ... ولها سطوة على العقل فتعقله عن التدبر وعن التذكر وعن التروي وتضع بينه وبين الحق غشاوة ... غشاوة من الحب تخفي المساوئ أو غشاوة من الكره تخفي المحاسن ... وهي تختلف من شخص إلى آخر ... وتختلف أقدارها بحسب الحالات وبحسب الترسبات ومن الصعب أن ينجو منها أحد ... في كل أحواله أو في بعضها ... بحسب الناس وبحسب القضايا وبحسب المواقع ....
لا يعني هذا الزهد في العقل والتعقل والعقلانية ... ولكن لنكن موضوعيين العقل وحده لا يكفي ... اشتغلت العلوم النفسية على هذه المواضيع ولكن منزعها المادي لم يسعفها كثيرا في التنبيه إلى ذلك ... لكن بعض كبار الصوفية اشتغلوا على هذا الموضوع حتى عدوا باصطلاح القدامى "أطباء القلوب" فأناروا بعض مسالك إصلاح النفوس من هذه الزاوية ....
وعندما نؤكد على معاني الأخلاق وعلى أهميتها في إصلاح السلوك الإنساني، فإننا لا نقدم مواعظ على الطريقة التقليدية، وإنما نبحث عما به يمكن إصلاح أحوالنا التي لا يمكن أن يصلحها الاعتماد العقل وحده ... فهو على جلالته لا يكفي ....
تاريخ أول نشر 2025/12/7
