هناك ملف مهم في رحلة شيخنا القرضاوي العلمية والعملية، من حيث كونه شخصية إسلامية عامة، قامت بدور كبير على عدة مستويات، ومنها بلا شك المستوى السياسي والمجتمعي، ومن أهم هذه الملفات الشائكة: قصته مع الشيعة، تلك القصة المتنقلة بين عدة مراحل، التي بدأت بتأييد معلن لأحد أهم الأذرع الشيعية وهو حزب الله في لبنان، وزيارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، واستقباله على أعلى المستويات، ثم آلت إلى مرحلة الفراق، وكتابة كتاب كامل عن موقفه من الشيعة، بل مجلد كبير، انتهى من كتابته في آخر حياته، ثم نُشر بعد وفاته رحمه الله.
ولأنه كلما حدث حادث معين، فيه اشتباك فكري أو فقهي أو سياسي متعلق بالموضوع، يتم استدعاء رأي القرضاوي، سواء من فيديوهات مختصرة، أو لمحة من موقف، فكان من المهم أن تروى القصة متكاملة، لتحسن الاستفادة منها، بعيدا عن أي توظيف هنا أو هناك، مع أو ضد القرضاوي.
مراحل رحلة القرضاوي مع الشيعة:
ويمكننا تقسيم قصة القرضاوي مع الشيعة إلى أربع مراحل، المرحلة الأولى: مرحلة التقارب النظري مع الشيعة. والثانية: مرحلة التقارب الفعلي والواقعي معهم. والثالثة: مرحلة الفراق والصدام، وتغير وجهات النظر بناء على مستجدات في الواقع. والمرحلة الرابعة: ما أعتبره مرحلة إبداء الرأي العلمي، المبني على خلاصة تجربته في الموضوع قراءة وممارسة، الذي نتج عنه كتابه: “وقفات مع الشيعة الاثني عشرية”، مضافا إلى مواقفه بعد الانقطاع الاختياري منه عن وسائل الإعلام، والحديث في الشأن العام، لرؤية لديه، ربما يأتي وقت للحديث عنها لأهميتها.
( 1 )
القرضاوي ابن الأزهر والإخوان ومصر التقريب
نشأ القرضاوي في الأزهر ومعاهده العلمية المعروفة بوسطيتها واعتدالها، التي كانت في وقت دخوله إياها في أوج تألقها العلمي، واشتباكها مع الأحداث السياسية والاجتماعية والدينية، فمن المعهد الأحمدي في مدينة طنطا الذي درس فيه كانت تخرج المظاهرات، وبحكم أن هذه المدينة من المدن المحورية في مصر آنذاك، كان يأتيها كبار الدعاة والخطباء والسياسيين.
ومن الأحداث المهمة التي شهدها القرضاوي في مصر، زيارة نواب صفوي لمصر، وهو زعيم إيراني معارض لطغيان الشاه، وكان زعيما لحركة “فدائيان إسلام” الشهيرة، وكان في زيارة للقاهرة، فدعاه طلبة الإخوان في جامعة القاهرة، في حفل أقاموه احتفالا بشهداء الجامعة، ونتج عن ذلك صدام وعراك بين طلبة “هيئة التحرير” الذين يحسبون على تنظيم الجيش آنذاك بعد ثورة يوليو بعامين، وبين طلبة الإخوان، ونتج عن ذلك اعتقال القرضاوي للمرة الأولى في عهد الحكم العسكري.
لم يحدث أن التقى في هذه المرحلة حتى مغادرته مصر بالشيعة لقاءات علمية، إلا من حيث اللقاء الفكري قراءة واطلاعا، وبعد تخرجه، تم اعتقاله ودخوله السجن لانضمامه لجماعة الإخوان المسلمين، وخرج من السجن عام 1956، وعمل فترة في وزارة الأوقاف، ثم انتقل للعمل في مشيخة الأزهر، في إدارة الثقافة الإسلامية، تحت إدارة الدكتور محمد البهي، ليقوم بعمل مهم، هو جمع تراث الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، وقد كان شلتوت من أنشط علماء الأزهر في نشاط التقريب بين المذاهب الإسلامية: السنة والشيعة، وكانت تصدر من مصر مجلة “رسالة الإسلام”، عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة.
وهذا ما يفسر لنا: لماذا نفى القرضاوي صدور فتوى عن شلتوت تجيز تعبد السني على المذهب الجعفري؟ فقد انتهى القرضاوي من جمع تراث شلتوت سنة 1959م، وبعدها بعام سافر للعمل في دولة قطر مديرا للمعهد الديني، وفتوى شلتوت صدرت بعد ذلك بسنوات قليلة، قبل وفاة شلتوت بمدة زمنية قليلة، ولم تجمع في تراثه ولم تنشر في أي من كتبه، فقد كان القرضاوي يتحدث عن تراث شلتوت وهو أعرف الناس به، لأنه جمعه مع صديقه أحمد العسال من المجلات والصحف، وقاموا باستقراء تراث الرجل كله، لكن الفتوى صحيحة عن شلتوت، وقد صدرت عنه بالفعل بعد ذلك.
كان القرضاوي وجيله في هذه الفترة، من الشباب الذين يجمعون بين دراستهم الأزهرية وانتمائهم الإخواني، موقفهم من الشيعة موقف التقريب وتنحية التعصب المذهبي، ولأنه لا يوجد في مصر شيعة، فلا يوجد احتكاك سياسي أو يومي ينتج عنه مواقف تصنع مواقف أو تبني رؤية من هذا الواقع، وليس معنى ذلك عدم صحة من اتخذوا هذا النهج موقفا، بل هو توصيف لواقع ومرحلة، لأنه سيفسر مواقف القرضاوي فيما بعد.
السفر إلى الخليج وعلاقته بأتباع المذاهب الأخرى:
ثم سافر القرضاوي إلى دولة قطر سنة 1961م، والمعروف أن جل دول الخليج فيها مواطنون ومقيمون شيعة، واستطاع القرضاوي بفكره الذي ينبع من مدرستيه اللتين انتمى إليهما علما وحركة، أن يكون صمام أمان في المجتمع الجديد، وفي كل دول الخليج المحيطة، التي كان يذهب لإلقاء المحاضرات والندوات فيها، وكان فكره الذي بدأ ينطلق من وسائل الإعلام المتاحة آنذاك في قطر إلى دول الخليج، يشع فقها وفكرا، يعزز روح التسامح، وروح العيش المشترك بين مكونات المجتمع، باختلاف مذاهبها.
ففي هذه الفترة التي تصل إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، كان القرضاوي ابن بيئته العلمية والأزهرية والإخوانية، التي تميل إلى الوحدة والتقارب، والبحث عن عوامل الاشتراك لا الاختلاف، وإن اطلع بشكل موسع على المذاهب الإسلامية الأخرى، خارج دائرة المذاهب الأربعة، ومن يقرأ كتابه “فقه الزكاة”، يجد تعمقا على مستوى المذاهب الأخرى، وعلى رأسها الشيعة الإمامية والزيدية.
كما كان محبوبا من الجميع، فليس في خطابه ولا فتاواه، ما يخيف أو يقلق الآخر منه، سواء كان الآخر دينيا أم مذهبيا، ولذا نال محبة وتقدير الخليج العربي، وبلدان العالم الإسلامي قاطبة، وكتب له القبول والمحبة، لما اتسم به فكره من وسطية واعتدال، مع جرأة في قول الحق، ومواجهة الخطأ، وليس في خطابه وممارسته ما يفخخ المجتمع، ولا ما يدعو إلى الفرقة، أو صنع حزازات مع نسيج المجتمع المختلف.
تلك مرحلة عاشها القرضاوي، وعاشها جل جيله، وكل من تعلم ودرس على هذا المنوال، مرحلة الموقف النظري من التقارب مع الشيعة، أو الموقف الفكري والفقهي، الذي لم يصل إلى مرحلة اللقاء والمناقشة والمحاورة، والعمل على أهداف مشتركة، وهي مرحلة تلتها مباشرة، تحتاج إلى حديث منفرد، نلم به قدر الاستطاعة في مقالنا القادم إن شاء الله.
( 2 )
مرحلة التقريب والتقارب
تناولنا في مقالنا السابق كيف بدأت علاقة القرضاوي بالشيعة؟ كمذهب يدرس ويقرأ، ثم عند سفره لدولة قطر مديرًا للمعهد الديني، وتعامله المباشر مع أتباع المذهب، بحكم المواطنة والعيش المشترك، في إطار فقهه المعهود، سواء مع الآخر الديني، أو المذهبي، ثم تطورت العلاقة وانتقلت إلى مرحلة ما يمكن أن نطلق عليه: التقريب والتقارب، فقد تقارب مع أتباع المذهب الشيعي، ودعا لذلك، حيث كان من المؤمنين بالتقريب بين المذاهب الإسلامية، في ظل مؤامرات على الأمة الإسلامية بغية تشظيها وتفتتها.
زيارة تاريخية لإيران:
وحضر القرضاوي مؤتمرات عدة تدعو لذلك، على مستوى الدول العربية والإسلامية، ثم توجت هذه المرحلة بزيارة تاريخية ومهمة لإيران، وقت حكم الرئيس الإيراني محمد خاتمي، في فترته الأولى، وقد كانت الزيارة معدة بشكل جيد، من جهة الإيرانيين، فالصورة العامة آنذاك عن “بروفيسور” جامعي وهو خاتمي يحكم إيران، وكانت رسائله الإعلامية إيجابية، وموضع قبول من كثير من الدوائر الثقافية العربية والإسلامية.
وعند ذهاب القرضاوي لإيران زار مدنًا عدة مهمة من الناحية الدينية، والتقى عددًا من المسؤولين الإيرانيين، وقدموه ليصلي بهم إمامًا، وعندما كان يحاول بعض المخالفين للشيعة القول بأنهم قدموك يا مولانا من باب التقية، فيرد القرضاوي: وماذا يتقون مني؟! إنني في بلدهم، وفي زيارتهم، وهم الأغلبية والحكام، وليسوا في موضع استضعاف ليمارسوا التقية معي.
كما تم تغطية زيارة القرضاوي إعلاميًا بشكل جيد، وعرضوا عليه هناك أن ينضم للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران، واعتذر القرضاوي من ذلك، وعلل رفضه بأمور عدة: أولها: أن المجمع أسس بقرار سياسي إيراني، وهو ما يمثل اتهامًا للقرضاوي عند قبوله، وثانيها: أنه لم يؤسس بناء على رغبة من أتباع المذهبين، وليس بناء على مؤتمر جمع بينهما، فتقرر تأسيس المجمع، ولذا اعتذر من قبول عضويته، وتقبلوا ذلك منه.
ود متبادل بين الشيعة والقرضاوي:
نستطيع أن نؤرخ لهذه المرحلة في التسعينيات من القرن الماضي، حتى عام 2004 تقريبًا، وقد اتسمت بكثرة تواصل الإيرانيين وأتباع المذهب الشيعي، سواء من الإيرانيين أو العرب، وكذلك المستشارية الثقافية الإيرانية في قطر، كانت ذات نشاط ملحوظ سواء ثقافيًا أو اجتماعيًا، في فترة تولي الدكتور عباس خامه يار لها، وقد كان دائم التواصل، وكثير الحرص على توصيل كل وجهة نظر تتعلق بالطرف الإيراني والشيعي للشيخ، في كثير من المواقف.
وعندما دعا القرضاوي لتأسيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، أراد أن يكون اتحادًا يمثل المسلمين جميعًا بكل مذاهبهم، ولذا عند التفكير في تعيين نواب له، عيّن الشيخ محمد علي التسخيري من الشيعة الإمامية، والشيخ أحمد الخليلي من الإباضية، وآنذاك رشح التسخيري بطلب من الشيخ بعض الأعضاء المهمين للحضور والعضوية، فكان من ترشيحاته: آية الله محمد واعظ زاده الخراساني، والسيد هادي خسرو شاهي، وقد كان قائمًا بأعمال السفارة الإيرانية في القاهرة، ويتقن العربية، وقد قام بنشر تراث جمال الدين الأفغاني كأعمال كاملة، وهو الجهد الذي قام به أستاذنا الدكتور عمارة، لكن عمله امتاز بحكم إتقانه الفارسية بأنه أضاف كتابًا كتبه الأفغاني بالفارسية، واعتذر من الحضور الشيخ محمد حسين فضل الله من شيعة لبنان لاعتلال صحته، وحضر ممثل له ابنه.
ومن طرائف زيارات الشيعة الإيرانيين للقرضاوي في قطر، أن ابنة محمد علي رفسنجاني رئيس إيران السابق، ورئيس مصلحة تشخيص النظام، وهو رمز ديني وسياسي معروف، جاءت السيدة زهراء رفسنجاني للمكتب، ومعها وفد من الإيرانيات، كن في مؤتمر في قطر، وقد جئن ومعهن هدية للشيخ، مغلقة، وواضح أنها من الزخارف الإيرانية المهمة، وبعد أن خرجن، وودعهن الشيخ، قال لي: يا عصام الهدية تهدى، خذها لك، فرحت، ورحت أفتح الهدية لأجدها بالفعل تحفة رائعة، منقوشة بزخارف إيرانية جميلة، ووجدت أسفلها منحوتًا هذه العبارة: هدية لفضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي!!
قلت له: يا مولانا، كيف سأعلق في بيتي هدية مكتوب عليها اسمك، أنت فلاح مثلي، يحضرني قول الفلاحين من أهلنا: قليل البخت يلاقي العظم في الكرشة، ومعلوم أن كرش الذبيحة لا عظام فيها، لكن المثل ضرب من باب عدم توافر الحظ أو النصيب، فضحك وقال لي: والله لقد خرجت من نيتي خالصة لك، قلت له: إذن نبحث عمن لم تحسن نيته.
القرضاوي يزور نصر الله ويدعم المقاومة:
كان تقارب القرضاوي مع الشيعة تقاربًا صادقًا وحقيقيًا من طرفه، من باب أني أتكلم عنه الآن، فقد كان يدافع عن الفكرة في كل مكان يهاجم فيه، أو تهاجم الفكرة ذاتها، وبلغ ذلك منه قمة صدقه أنه عندما زار لبنان، ودعي لزيارة (حزب الله)، في وجود حسن نصر الله أمين عام الحزب، وكانت وقتها إسرائيل تشن الغارات والحروب على جنوب لبنان، فقال القرضاوي عبارة لا يقولها غيره: لو استعرضتم بنا هذا البحر لخضناه معكم. دلالة على دعم الشيخ للمقاومة اللبنانية، بكل ما أوتي من قوة، وذلك كان موقفه مع كل مقاومة للعدو الصهيوني، سواء كانت سنية أو شيعية.
رغم أنه قبل ذلك الموقف بأشهر قليلة، كان قد زاره في بيته بعض الدعاة السلفيين من مصر والشام، كان منهم: الشيخ محمد حسان، والشيخ وحيد بالي، والشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل ثاني مدير مساجد قطر، وهو من التوجه نفسه، وجاء الحديث عن الشيعة، وكان حديث الشيخ عارفًا بمشروعهم، ومشاريعهم، وما لديهم، لكنه كان دائم البحث عن مشاريعنا نحن السنة، وليس الانشغال فقط بمشاريع الآخرين، فلم يكن موقفه كما يتصور البعض عن وهم، أو سذاجة، أو حسن نية لأنه كمصري لم ير شيعة في مصر.
تقريب عن بصيرة:
وفي هذه الأثناء كتب القرضاوي رسالة علمية مهمة، بعنوان: مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية، وكانت مقدمة لمؤتمر في قطر، فقد كانت الدوحة في هذه الآونة قد بدأت تعرف بين دول العالم العربي والإسلامي بأنها عاصمة المؤتمرات، وقد نجحت في ذلك نجاحًا ملحوظًا، وكان من بينها هذا المؤتمر، وقد كتب لهم القرضاوي بحثه المطول، وانتشر كسائر كتبه، وقد وضع فيه مبادئ مهمة لإزالة التعصب، ونشر التسامح، ومن اطلع عليها سيجد أيضًا أن القرضاوي لم يكن في دعوته للتقريب كان يدعو لتقريب أعمى، أو إذابة الخصائص المتعلقة بكل مذهب.
ثم جاءت أحداث الاحتلال الأمريكي للعراق، وبدأت مرحلة أخرى من علاقته بالشيعة، بنيت على التعامل السياسي الذي جد على المنطقة، وعلى تضارب المشاريع السياسية، ولذا بدأ مرحلة أخرى، كان صريحًا فيها بالقدر نفسه الذي كان في التقريب، لتبدأ مرحلة التباعد، ويتجه بحديثه اتجاهًا آخر، نبينه في مقالنا المقبل إن شاء الله.
( 3 )
مرحلة الافتراق والمواجهة
ظلت علاقة القرضاوي مع الشيعة في إطار التقريب والتقارب معهم، إلى حدود عام 2004م تقريبا، وبداية من هذا العام، بدأت الأحداث السياسية تأخذ منحنى آخر، سيغير طبيعة العلاقة فيما بعد، فقد كان احتلال الأمريكان للعراق، وما تلاه من أحداث، بداية فصل أخير فيها.
فقد كان الشارع العربي والإسلامي السني، متعاطفا بشكل كبير مع المقاومة اللبنانية، ولم يفكر أحد في طرح قضية انتسابها للشيعة، إلا الاتجاه السلفي الذي كان يرفض التعاطف معها لهذه العلة، ويحذر منها، ولم يعرف في تاريخ الجامع الأزهر أن رفعت صور لأشخاص سوى جمال عبد الناصر، وحسن نصر الله.
لكن العنوان الشيعي في مخيال المواطن العربي المسلم السني، تحول إلى عنوان آخر، وكانت أحداث العراق أحد أهم أسباب تغيره، وقد تم عقد جمعية عمومية للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سنة 2006م، حضرها جمع غفير من رموز السنة في العراق، وكان على رأسهم الشيخ الحارث الضاري رئيس هيئة علماء العراق.
البداية من الجمعية العمومية للاتحاد:
وفي إحدى استراحات الجلسات، نادتني إحدى عضوات الاتحاد من مصر، وهي شخصية معروفة بالعمل الخيري، وقالت: نريد أن يتحدث الشيخ الضاري عما يحدث في العراق، قلت لها: ليس له كلمة مجدولة في أعمال الجمعية، لكننا يمكن أن نعطيه كلمة في استراحة، ولا ينهيها حتى حضور الأعضاء في القاعة، وبذلك يضمن إكمال كلمته في حضور الجميع، ولو قليلا من الوقت.
وبالفعل تم ذلك، وبعد أن استمع إلى كلمته بعض الحضور، وقبيل نهايتها كانت القاعة قد امتلأت، واعتلى منصتها الشيخ القرضاوي، والدكتور العوا، والشيخ التسخيري من إيران، وكانت هذه الجمعية قد تميزت بحضور خليجي وخاصة من السعودية كالشيخ سلمان العودة، وعدد آخر مهم، ولما فتح النقاش حول ما يجري في العراق من شيعة إيران والشيعة بوجه عام، وبخاصة مع المساجد في العراق، وقف رئيس الوقف السني في العراق أحمد عبد الغفور السامرائي وبدأ سرد أرقام وإحصاءات مساجد سنية جرى هدمها، أو الاستيلاء عليها.
عندئذ أصبحت أجواء النقاش ساخنة جدا، فقد كان أهل العراق موجوعين مما يحدث، وتكلم سلمان العودة أيضا، وثنى عليه الشيخ عبد الرحمن المحمود من قطر، ثم فوجئ الحضور بالقرضاوي يتدخل في الحديث، ليقول: أنا متفق مع الإخوة الشاكين من دور إيران والشيعة في العراق، وهي أمور تحتاج لتوضيح ومصارحة، لا تطييب خواطر بكلام نظري، وعلى الإخوة في إيران القيام بذلك.
ثم نزل القرضاوي إلى القاهرة في صيف هذا العام، وفي لقاء في نقابة الصحفيين قال كلاما أكثر صراحة في هذا الملف، فأراد العوا وكان أمينا عاما للاتحاد وقتها، محاولة لملمة الموضوع، بعيدا عن الصحافة، فقال عن كلمة الشيخ: لعلها زلة لسان. وكتبت وقتها مقالا أبين أنها ليست زلة لسان، بل هو توجه جديد للقرضاوي، سواء أعلن ذلك بتفصيل أو ألمح إليه تلميحا.
تقرير عن التشيع في إفريقيا:
في هذه الأثناء، دخل سلمان العودة في الجمعية العمومية للاتحاد المشار إليها آنفا: مجلس أمناء الاتحاد، فاقترح إجراء عمل بحثي استقصائي خارج الاتحاد، على أن تعرض نتائجه عليه، عن التشيع في إفريقيا، وقام فريق بحثي برصد نشاط نشر التشيع في قارة إفريقيا، وكانت تعرض على القرضاوي نتائج البحث أولا بأول، ولم يكن غائبا عنه بعض المبالغات في التقرير، وقد صارحني بهذا، حين قال لي: يا عصام، أنت من أوسيم، وهي بلدتي التابعة لمحافظة الجيزة، وقد كان القرضاوي يتمتع بذاكرة حديدية، فيعرف من أي محافظة أنت، ومن أي قرية، وعند ورود اسم قريتك في مسألة أو موقف، يربط بين الموقف والمعلومة وشخصك، فقال لي: إن التقرير المكتوب، يخبرنا أن هناك بؤرة تشيع في بلدك، فقلت له: هذا غير صحيح، ربما تعاطف من شخصين مع حزب الله، قال لي: إن التقرير فيه مبالغات، لا أنكر ذلك، لكن في مجمله هناك معلومات دقيقة، ومعلومات تشم منها المبالغة.
أكذوبة تشيع ابن القرضاوي:
في هذه الأثناء بدأ أصدقاء القرضاوي بالأمس من الشيعة، فهم أن هناك موقفا جديدا للقرضاوي، بادئ في التشكل، وإن لم يعلن عنه، وبدل أن يناقشوه ويطرحوا ما لديهم من ردود على ما لديه من شكاوى وشكوك، ارتكبوا أخطاء لم تكن عاقلة، فقد أشاع أحد رموز الشيعة في لبنان أن سبب هجوم القرضاوي عليهم هو أنهم نجحوا في جذب أحد أبنائه إلى التشيع، وأنه تشيع بالفعل، وضجت مواقع الأخبار، بهذه الأكذوبة، وقد كانت كفيلة باستمرار الشيخ في موقفه الجديد، لا العودة عنه، وقد كان ابنه المقصود الشاعر المعروف الأستاذ عبد الرحمن القرضاوي، مستغلين قصيدة شعرية قالها في المقاومة اللبنانية، لا علاقة لها بموقف مذهبي، بل كانت مبنية على مقاومة العدو الصهيوني.
تشكل اقتناعات جديدة للقرضاوي:
وبدأت تتشكل اقتناعات جديدة لدى القرضاوي، ومن حوله من الدائرة المقربة علميا، في معظم المؤسسات التي يرأسها، وبدأت دائرة اقتراب التيار المحسوب على السلفية في الاتحاد تزداد قربا، وعملا في هذا الملف، وبدأت الهوة تتسع بين القرضاوي والتيار الشيعي بوجه عام، والرموز الموجودة في الاتحاد، حتى صرح في محاضرة له في موقع إسلام أون لاين، بموقفه الجديد، ومراجعة مواقفه تاريخيا في التقريب مع الشيعة.
ثم جاءت الجمعية العمومية للاتحاد سنة 2010م، وقد شعر التسخيري بأن الموجة عالية ضد التوجه الشيعي في الاتحاد، وضد شخصه، وقد كان العرف المعمول به في الاتحاد أن الرئيس يختار نوابه، ويجري التصويت على الرئيس ثم نوابه، نائبا نائبا، ولذا بادر التسخيري بعدم اختياره، وتم اختيار شخصية أخرى، وبعدها مباشرة استقالت من الاتحاد المجموعة الأبرز في ملف التقريب مع الشيعة، وعلى رأسهم مع حفظ الألقاب: محمد سليم العوا، وفهمي هويدي، وهيثم الخياط. وانسحب فيما بعد من الطرف الشيعي بقية الموجودين.
الربيع العربي ومواقف أكثر افتراقا:
ثم جاءت مرحلة الربيع العربي، وقد كان من قبل من أسباب انبهار عدد من الشباب الإسلامي بالثورة الإيرانية، أنهم قاموا بثورة لم يقم بها السنة، فجاءت هذه المرحلة بثورات لم تكن مذهبية، لكنها أخذت بريق الثورة الإيرانية عند الشباب المتدين، لثورات أخرى، وجاءت الثورة السورية، لتضع العلاقة في اختبار جديد، وفصول جديدة، كان القرضاوي في القلب منها، بحكم رمزيته الكبيرة، وبحكم موقفه من الربيع العربي، وقد كان أكبر رمز علمي سانده، بداية من الثورة المصرية، وندائه للجماهير بالنزول يوم موقعة الجمل، ثم دخول الثورة السورية في المرحلة العسكرية، بحكم ما قام به النظام السوري. وقد انحاز حزب الله وإيران إلى بشار ضد الثورة السورية الشعبية السلمية، التي تحولت إلى عسكرة بسبب ممارسات النظام.
لو جمعنا الأحداث منذ احتلال الأمريكان للعراق، إلى أحداث الثورة السورية، وما بينهما من أحداث أخرى، كلها وضعت أمام عقل وفكر القرضاوي، رمز الأمة وضميرها الحي، لوجدنا أن كل ذلك جعله يتخذ قرارا بإنهاء موقفه من التقريب، ويتجه إلى المفارقة والمواجهة، فبعد أن كتب رسالته: “مبادئ في الحوار والتقريب”، كتب رسالة صغيرة من عدة صفحات، يبين فيها موقفه الجديد مجملا، جعل عنوانها: “كلمات صريحة في التقريب ين السنة والشيعة”، أعلن فيها موقفه الأخير مجملا، تاركا التفصيل لكتاب أكبر، يقع في مجلد كبير، وهو ما يجعله يدخل في مرحلة أخيرة في العلاقة، هي مرحلة: الرأي العلمي والخبرة التاريخية في موقفه من الشيعة. وهو ما نفصله في مقالنا القادم إن شاء الله، لنختم به ملف القرضاوي والشيعة، بحسب شهادتي واطلاعي على مواقفه الكتابية والتعبيرية.
(4)
مرحلة الرأي العلمي وخلاصة تجربته
تحدثنا في ثلاثة مقالات سابقة عن قصة القرضاوي مع الشيعة، في مراحل ثلاث، وبقيت المرحلة الرابعة والأخيرة، التي تمثل أخذ القرضاوي مسافة لتدوين موقفه مكتوبا محررا، بعد أن اشتعل الخلاف بينه وبين الشيعة، بسبب الدور الذي قامت به إيران في عدد من المناطق العربية السنية، وجاءت مرحلة رابعة تمثل مرحلة إبداء القرضاوي رأيه العلمي في المذهب الشيعي، وتقديم خلاصة لتجربته مع هذا الملف.
وذلك بعد أن جاءت مرحلة الافتراق بين القرضاوي والشيعة، وبدا واضحا ألا أمل في اللقاء على قواعد التقريب بين السنة والشيعة السابقة، التي دخلها القرضاوي بكل طاقته، وبكل ما لديه، وقد مد يده بكل ما يمكن لمنع أي فتنة مذهبية في البلاد الإسلامية. والعجيب أن القرضاوي مر بتجربتين في الحوار، انتهتا بالتوقف.
الأولى: الحوار بين الأديان، وانتهت بأنه أوقف الحوار مع الفاتيكان، بعد أن تعامل الطرف المسيحي الأوروبي بعدم اعتراف بالإسلام كدين سماوي، عندئذ أعلن القرضاوي جملته الشهيرة: فما قيمة لقائنا إذن؟! وأعلن وقف الحوار، وهي تجربة أيضا تحتاج إلى رصد سواء على مستوى قامة كبيرة كالقرضاوي، أو قامات أخرى شاركت، وأوقفت الحوار لنفس السبب، ولأسباب أخرى.
القرضاوي يدون تجربته ورأيه في الشيعة:
ثم بعد ذلك أعلن القرضاوي مرحلة جديدة هي مرحلة: وقف التقريب بين المذاهب الإسلامية؛ سنة وشيعة، وذلك لما أحدثته سياسة إيران وحلفائها، واتجه إلى اتجاه آخر بعد مرور سنوات، وبخاصة بعد عام 2013م، وإتيان مرحلة الثورات المضادة، فبدأ العكوف على كتابة كتاب كبير عن المذهب الشيعي، وخلاصة تجربته في التقريب، وتجارب آخرين سبقوه في نفس المجال، في علاقتهم بالشيعة.
شرع القرضاوي في الخطوات الأولى لكتابه عن الشيعة، الذي كان وقتها للأحداث الجارية أثرها فيه، وهو أمر طبيعي، فالفقيه والمفكر ليس معزولا عن واقعه، وإلا جاءت كتابته منزوعة القيمة والأثر، وقد اعتمد القرضاوي في جل كتابه على كتب المذهب الشيعي، وعاد إلى جل المصادر في الموضوعات التي طرحها، وناقش بإنصاف شديد الآراء الواردة في الموضوع الذي يطرحه من أفكارهم ومعتقداتهم، وقد ركز على الجانب العقدي وجانب الأصول، لأن الخلاف فيه مشكل، والخلاف في الفروع لا إشكال فيه، ومجاله كتب الفقه، وليست كتب العقائد.
عرض أفكارهم لا الحكم عليهم:
والحقيقة أن كتاب القرضاوي مر بعدة مراحل فكرية، وغير من خطته بعد أن كان ينتوي أولا أن يعنى بالحكم عليهم، ولكنه اتجه في النهاية اتجاها آخر، وهو الحديث عن منهجهم وأهم أفكارهم، وفيم يختلفون معنا، وبخاصة في قضايا الأصول، ويترك الحكم عليهم، أي أنه اهتم بعرض أفكار القوم، دون الحكم عليها.
ناقش القرضاوي في كتابه ستّ مسائل محددة، وهي: 1ـ موقفهم من القرآن، وهل قالوا بوجود آيات قد حذفت منه أم لا؟ وهل هناك من الشيعة من رد على هذا القول؟ 2ـ موقفهم من مرويات السنة النبوية، التي لدينا في كتبها ودواوينها. 3ـ موقفهم من الصحابة، من حيث الترضي عليهم، وهل يرد في كتبهم لعن لبعض الصحابة، أو لعدد منهم؟ 4ـ موقفهم من الإمامة، وهم يعتبرونها من الأصول، وأن الأحق بها علي رضي الله عنه. 5ـ موقفهم من آل البيت، وتقديس الشيعة لهم. 6ـ مبدأ التقية، وهل يغالي فيه الشيعة أم لا؟
ومع تقديرنا للجهد العلمي المبذول في الكتاب، وعودة القرضاوي إلى كتب المذهب الشيعي، فستظل هناك إشكالية، وهي أن القرضاوي نفسه في رسالته “مبادئ في الحوار بين المذاهب”، تناول بعض هذه المحاور، وكان له رأي معاكس لما انتهى إليه في كتابه الأخير، ونقل عن بعض عقلاء الشيعة، موقفهم من هذه القضايا، متكئا عليه في الدفاع عن موقفه السابق من التقريب بين السنة والشيعة.
لست في سياق مناقشة كتاب شيخنا القرضاوي، وهو يحتاج إلى مناقشة من عدة جوانب مهمة، ليس هنا سياقها، والكتاب خرج بعنوان “وقفات مع الشيعة الاثني عشرية”، ومن الواضح من عنوانه، أنه لم يجعل منه عنوان اشتباك، فأراد أن يكون نقاشا هادئا، لموقف علمي، وإن شمل مصارحة ووضوحا من قضايا تراثية ومعاصرة لدى الشيعة، كما حرص على عرض الكتاب على بعض المختصين في الفكر الشيعي، من أهل السنة.
القرضاوي يرفض تكفير الشيعة بالعموم:
ناقش القرضاوي الموقف من الشيعة، وقسم المواقف منهم إلى ثلاثة مواقف: موقف الذين يكفرونهم، وموقف من ينظر إلى الشيعة من خلال مواقفهم السياسية فقط، وموقف فئة الوسط كما أطلق عليها القرضاوي، ويعني بهم من يتبنون موقفه، الذي مفاده “أنها الفئة التي تعارض الشيعة فيما تختص به من معتقدات وأصول، وما تتفرد به من سلوكيات أو شعائر؛ مثل الشهادات الثلاث في الأذان، ومثل إحياء البلوى بمصيبة الحسين كل عام؛ مع أن الفقهاء يرون أنه لا عزاء بعد ثلاثة أيام! ولكن هؤلاء لا يصلون بالشيعة إلى حد الكفر البواح، أو الكفر الأكبر، إلا ما لا يحتمل التأويل ويقطع بكفر صاحبه.
وأنا من هؤلاء الذين لا يكفرون عموم الشيعة، ولكن يخالفونهم في جملة قضايا أساسية”.
ويفرق القرضاوي بين الشيعة الإمامية، وبين مذاهب أخرى من الشيعة، كالشيعة الزيدية الذين يعيشون في اليمن، فهو يرى الزيدية أقرب إلى أهل السنة، ولا يرى بيننا وبينهم فرقا كبيرا، لا في أصول العقائد ولا في الفروع. ويرى أن الخلاف بين الشيعة الإمامية وبين أهل السنة، هو خلاف في الأصول لا الفروع، في المبادئ لا في التفصيلات.
خلاصة تجربة القرضاوي ورأيه:
عرضت المراحل التي مرت بها علاقة القرضاوي بالشيعة، بكل حياد وإنصاف، وتوخيت ذكر ما أعرفه، سواء من خلال معايشتي للشيخ، أو من خلال قراءتي لكتبه، ومن خلال اللقاءات الشخصية التي كان يتحدث فيها، ومنها ما كتبته، ومنها ما لم يحن وقت إعلانه في الموضوع، لكن معظم ما كتبته، هو الأهم من حيث الفكرة وتاريخها، وهناك خلاصة للموقف، وتوضيح لأمور قد يلتبس بعضها على من يقرأ مرحلة ويقف عندها دون جمع كل مواقف الشيخ ومراحله.
1ـ علينا أن نفرق بين رأي القرضاوي في الشيعة من حيث الموقف السياسي، ومن حيث الموقف الفكري والفقهي والعقدي، وبين موقفه من الشيعة بوصفهم طرفا في المقاومة الإسلامية ضد الكيان الصهيوني، فرغم رفضه ما حدث من عدوان من الشيعة في بلدان سنية، فإنه لم يصمت قط عن عدوان صهيوني على شيعة مقاومة، مع تنبيهه على موقفه السابق من عدوانها.
2ـ موقف القرضاوي من التقريب والتقارب مع الشيعة، فيما أفهمه من كلامه ومواقفه، لم يكن مع التقريب بنفس صيغته القديمة، دون وضوح في الرؤى والمواقف، ومع كل من ينتسب للمذهب الشيعي، ولكنه ظل يدعو إلى التقارب والنقاش مع عقلاء المذهب، كما أكد ذلك في كتابه: “وقفات مع الشيعة الاثني عشرية”، حيث قال: “نعم هناك في الشيعة في العراق وإيران تيار إصلاحي في التقارب مع السنة لكنه ضعيف، ومن الواجب على أهل السنة التقارب مع عقلاء الشيعة الإصلاحيين لقطع الطريق على الغلاة”.
3ـ موقف القرضاوي، كان يرى أهمية أن يكتبه، وبخاصة في كتابه الأخير: “وقفات مع الشيعة الاثني عشرية”، وكان مصرا على نشره في حياته، أو على الأقل إتمامه، وكثيرا ما حدثه البعض في عدم النشر، أو عدم الكتابة، لكنه كان يرى أن واجبه أن يكتب ما يؤمن به، ويكتب شهادته، وأن يعبر عنه، بحكم رمزيته، فقد كان يعلم ويؤمن بأهمية دوره بوصفه أكبر رمز سني في زمانه، وأن عليه واجبا وأمانة، عبر في كل مرحلة منها، بما يؤمن به، وبما لا يمكنه التعبير بغيره، سواء اتفق معه من اتفق، أو اختلف معه من اختلف.
_____
المصدر: 4 مقالات متوالية نُشرت بموقع "الجزيرة مباشر"، بتاريخ: 12، 18، 25، أكتوبر، 1 نوفمبر - 2024م.