المقامة التونسية
حديث الطغيان وخراب البلدان
..قد مررنا في بعض ترحالنا في ما مضى من أزمان الصبا بقرية وكنّا قد وصلناها ضحى.. وكانت قفرا لا نرى فيها خضرة ولا نظفر فيها بشجرة. ولا ندرك فيها ماء ولا نسمع فيها إلاّ صرير الريح تصفع صخورا ناتئات أو أصدية متنافرة لذئاب عاويات نسمعها ولا نرى أشباحها ولا نصبر فيها إلاّ بعضا ممّا تبقّى من خرائب مغروسة في الرّمل كأنّها الأجداث.. فهي أوحش ما تكون فأرسلنا النظر بحثا عن مقيل أو ظل قليل أو كهف يؤوينا إذا أغار علينا الوحش ليلا مع المبيت حتى ولجنا مدخلا ناتئا في صخر عظيم فأقمنا..
وكان اجتمع علينا العجب والرعب وجالت العبرة في العيون وكنّا ننشد الاعتبار في سفرنا هذا ونتذاكر الحكم والأخبار في سمرنا. وكنّا قد مررنا بقرى كثيرة وشاهدنا آيات الفناء في بنيانها والخراب في عمرانها. ولم نر قرية أخوف من هذه ولا أوحش ولا أشدّ خرابا..فالتفت بعضنا إلى "زقفون" وكان لنا صاحب في الرحلة ودليل في العتمة وقد لقيناه ببعض الخرائب البعيدة وحيدا بلا أهل وغريبا بلا بلد.فاحتملناه معنا يروي لنا ما شهد في سنين عمره الماضيات وما شاهد من أهوال مفزعات.فألقينا عليه السؤال وقلنا ما قصّة هذه القرية إن كنت تدري؟ فإذا به سهو لا يجيب وفي عينيه شيء كالدمع مريب يكاد ينزل فيخفيه وفي الصدر نحيب لا ينفيه فقلنا: ما شأنك؟ وليس هذا حالك فيما سبق.قال: كانت كالجنّة لا يظمأ فيها أهلها ولا يجوعون حتى ظهر فينا رجل لم نعرف له أصلا ولم نذكر له معروفا في ما مضى وقال: يا قومي إنّي لكم ناصح فاتبعوني فقلنا وما تريد؟ قال:إصلاحا.ثمّ لا يزال يظهر التزهّد التقوى ويحدّث النّاس بحديث الصّالحين فقلنا له :ما تريد؟ قال :أريد ما تريدون وأفعل ما تأمرون وأصلح ما أفسد القوم المفسدون في هذه السنين العجاف وأوردكم موارد النّظاف فقلنا :هذا والله ولا خيار:
فأمّرناه قومنا وحكّمناه أمرنا نرجو منه إصلاحا وحمدنا الله على نعيمه وترقّبنا في الحكم صنيعه.حتى خرج علينا يوما رافعا كتابا كنّا قد تواضعنا على ما فيه من أحكام وجعلنا ما فيه فيصلا بين المتخاصمين من الأقوام.وفيه دفع لمن أخذه الهوى فطغى. أو لمن تجبّر وغوى وقال: هذا سبب المهالك والبلاء.ثمّ رمى به إلى الصبيان فمزّقوه.ونحن نعجب من قوله ونخاف من فعله. ثمّ اعتكف بعض شهر في القصر ونادى في أتباعه أن اتبعوني وذروا من أنكر فعلي من البغاة الفاسدين.وكان يشير ولا يكشف ولعلّه لا يعرف..ويرمي بالقول ولا يحسن إصابة المعنى يترجّل الخطاب فينكر المقام فكأنّة سجع الكهّان أو تمتمة العيّارين.حتى خرج على الناس يسبقه وعيده وقال: هذا كتابي ومن أنكره فقد أبى.ثمّ صار بين غيبة وطلوع وغضبة وخشوع وتقوى عابرة وصيحة فاجرة وإذا سار بين الناس جمع الجند والعسس حتى إذا تخاطب الناس بالهمس وتحدّثوا بحديث الخوف والجوع وأنكروا فعله وعابوا قوله فأمر جنده فأخذوهم بالقمع والظلم وهو يستزيدهم بطشا حتى اشتدّ الغضب وتعالت الأصوات مستنكرة وصاح الناس في الأسواق الكاسدة واجتمعوا في الشوارع والساحات وهتفوا :يسقط الطاغية.وكانت فتنة عظيمة خرّبت فيها القرية ورحل منها النّاس فهم في كلّ سبيل يطلبون الطّعام والسّلام ..فهي كما ترون ..خرائب وأطلال ..وكنّا نسمع في قوله غمغة ثمّ تشتدّ فإذا هي نحيب ثمّ صمت وقال:هذه قصّتها وفيها كل العبر لمن أراد الحكمة في السفر..
فقلنا سؤالا:وكيف انتهى بعد خراب العمران؟قال:حدّث بعض قومنا ممّن تخلّفوا في الرّحيل أنّهم سمعوا صراخا من القصر كالعويل وكان يخرج عاريا يبحث في الخرائب عن أنيس أو من يحدّثه أو جليس فيتحاشاه من تبقّى وكثيرهم أصابهم الخبل لهول محنتهم زمن طغيانه ثمّ يردّه الصبيان بالحجارة فيدمى ويعوي كالذئب وهو على هذه الحال حتّى غاب عنهم خبره..