search

بين المرزوقي والغنوشي ... سرديتان من داخل قوى الثورة!

أعاد المرزوقي في لقاء عام يوم أمس - بعد انقطاع منذ انتخابات 2019 - روايته لسردية الثورة من وجهة نظره ... خلاصتها أن الثورة حكمت ثلاث سنوات وبعد ذلك عادت الثورة المضادة من جديد بتنازل من النهضة بدأ بلقاء باريس وتوج بدعوة الغنوشي لانتخاب الباجي ....

لذلك يواجه المرزوقي الثورة المضادة بالرد على ادعاءاتها الباطلة: بأن سبب الثورة هو "أنتم" بكل أنواع الظلم والنهب التي مارستموها، وبأن تدهور الأوضاع في السبع سنين الأخيرة هو "أنتم" أيضا فقد مسكتم البلاد من جديد بعناصر الخراب الخمسة وهي:

  • عودة الحزب الذي قامت الثورة عليه للحكم من جديد في لافتات جديدة.
  • والدولة العميقة التي زرعها ولا زالت نافذة.
  • والمال الفاسد الذي نهب في الماضي وعاد للنهب من جديد.
  • والاعلام الفاسد الذي عاد لتضليله بأشد ضراوة.
  • والقوى الأجنبية الرافضة للثورة والتي تمد الثورة المضادة في الداخل بكل الدعم من أجل إسقاط الربيع العربي الذي بقي صامدا في تونس.

يرى المرزوقي أن تنازل النهضة وخوفها من مصير مشابه لما حصل في مصر خاصة هو الذي ساعد الثورة المضادة للعودة للحكم من جديد ولتحكم طيلة بقية السنوات وكانت النهضة مجرد "عجلة خامسة".

ويرى أيضا أنه لم يبق للنهضة إلا حسنة واحدة هي دفاعها عن الدستور، الذي يؤكد أن إصراره هو على توازن السلطات فيه، هو الذي حمانا من عودة الدكتاتورية يمينا أو شمالا ... وهو الذي حمى التونسيين من مصير مظلم راود الكثيرين، خلاصته العودة للنظام الديكتاتوري الفردي.

وليس أمام التونسيين الآن بعد الوضع الكارثي الذي "لم يشهد له مثيلا في تاريخ تونس" الا "استئناف الثورة" من جديد.

المتابع للمرزوقي لا يرى في ما قال جديدا - وقد اشار هو لذلك - فتلك هي افكاره وتلك هي شخصيته ... وفي لمبادئه وقيمه ولقراءته للتاريخ وللواقع ولرؤيته للمستقبل.

المرزوقي رد على سردية الثورة المضادة بشكل مباشر، ورد على سردية الغنوشي بشكل غير مباشر .... لكنه كان واضحا ودقيقا في عدم الخلط بين نقده لسردية الغنوشي وبين التمسك بلا مواربة بحق الاسلاميين الكامل في التنافس على السلطة .... يأتي بهم الصندوق ويذهب بهم الصندوق.

من كان متابعا للمعارضة السياسية للنظام قبل الثورة كان يعرف بالتأكيد الفرق بين ما كان ينادي به المرزوقي وبين ما كانت تنادي به النهضة ... وعندما اطلق المرزوقي شعاره " لا يصلح ولا يصلح " .... كانت للنهضة مسافة واضحة مع هذا الشعار ... وان حاول الغنوشي التعمية عليها باعتماد خطاب متشدد تجاه النظام.

ففي الوقت الذي كان المرزوقي حاسما في النظام كانت النهضة غير قادرة على اتخاذ خطوة مماثلة حتى وان كان خطابها وخاصة خطاب رئيسها متشددا.

النهضة حزب كبير يظم الآلاف تشكل أوضاعهم في السجون وفي السجن الكبير في الداخل وايضا في المنافي ضغطا كبيرا عليها، والنهضة حزب كبير بتاريخ تنظيمي ومؤسساتي معقد وزاده تعقيدا توزعه على السجون والداخل والخارج مما يجعل قراراته وخياراته دائما مسيجة بضوابط وسياسات وتوازنات . لذلك فقد كان الشبه الظاهري بين ما كان يدعو اليه المرزوقي والغنوشي قبل الثورة يخفي استراتيجيات مختلفة . فالغنوشي كان "يضغط" في حين كان المرزوقي "يثخن" ... والمرزوقي قطع حبل الوصل مع النظام، في حين كان الغنوشي لا يمانع من إرسال الوساطات او استقبالها.

هذا الاختلاف قبل الثورة، هو الذي استمر بعدها، وزاده تأثيرا القوى الاقليمية والدولية ذات العلاقة بالشأن التونسي من حيث تأثيرها على الفرقاء السياسيين وخاصة النهضة.

وفي حين اعتمد الغنوشي "سلاح المناورة" حتى اشتهر بـ"التكتاك"، اعتمد المرزوقي على سلاحه المحبب اليه الا وهو "الثبات" .... المرزوقي يقول بالثبات نصل، والغنوشي يقول بالثبات ننكسر ... الغنوشي يقول بالمناورة نفلت من خصومنا، والمرزوقي يقول بالمناورة نضل طريقنا ... وكل منهما يحمل في داخله محددات تفكيره النفسية والفكرية والتنظيمية السياسية والتاريخية وما أدراك ما التاريخية.

بالثبات لا يخسر المرزوقي شيئا بل يراكم رصيده، أما الغنوشي فهو يحمل على عاتقه كلكلا من الأثقال لتنظيم حزبي كبير ومعقد المحامل الواقعية والنفسية وحتى الفكرية فضلا عن السياسية والتاريخية.

المرزوقي احتفظ بنفسه واضاع حزبه وتمزق بين يديه اربا، والغنوشي لا يمكن له التفريط في حزبه وليس من السهل تغييره من داخله.

هزمت الثورة المضادة المرزوقي وقد كانت هزيمته أسهل عليها من هزيمة النهضة، فقط لأن الغنوشي استعمل معها سلاحها ألا وهو المناورة والمكر .... والنتيجة أنها بقدر ما استطاعت العودة للحكم، إلا أن وجود النهضة في ساحته لم يعطها ما تريد من مسح كل ما جاءت به الثورة ... فقد بقيت النهضة في أضعف حالاتها منغصا.

يعول الغنوشي على مكتسبات الثورة الرئيسية ألا وهي الحرية والدستور، باعتبارهما جدار الصد الذي يحمي ظهره وظهر النهضة. ولكن التدهور المتسارع للأوضاع، وتشتت قوى الثورة، والقانون الانتخابي الذي لا يفرز قوة متجانسة للحكم يضيق الخناق على النهضة وعلى الغنوشي.

قد يكون الغنوشي هو الوحيد - في تاريخ الصراع بين المركز والاطراف - الذي صارع و لا زال يصارع المركز بأسلحته القائمة على المكر والمناورة والمداورة . ذلك أن التاريخ مليئ بثورات "الأطراف" و"العربان" التي "تسقط" أمام دهاء المركز وحيله وتتحول انتصاراتها السريعة المغرية إلى مذابح وخراب وتخريب ونهب.

لذلك يقول الغنوشي "متفاخرا" اننا منعنا حمامات الدم ، وأسقطنا خيار الردة بإصررنا على أن نسلم السلطة بعد كتابة الدستور وبعد إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية .... دخلنا بالصندوق والصندوق فرض على ممثلي النظام القديم أن لا نخرج وفرض عليهم عدم تجاهلنا .... خرجنا بعد المصادقة على دستور هو مفخرتنا الآن- وهو الذي حمى تونس على حد رأي المرزوقي - وسلمنا الحكم بعد انتخابات حرة .

ليس هناك شك في أن الثورة المضادة ارادت أن تأخذ بالحيلة ما لم تأخذه بالدم. وهنا يرى الغنوشي أنهم أيضا تسلحوا بالصبر والمداورة كي يمنعوا تدهور الاوضاع، وتمسكوا بالمحافظة على الحد الأدنى، فقبلوا بالمشاركة الضعيفة في الحكم، وتصدوا بذكاء لعمليات الارتداد الواسعة حين وقفوا ضد قانون المصالحة بصيغته الأولى وتمسكوا بالانتخابات البلدية ووقفوا ضد نزعة التوريث.

يتحرك الغنوشي سياسيا في إطار "الممكن" في وضع يعج بالإكراهات ، ويرى أن تونس الثورة لم تخرج على "قانون الثورات" الذي يمكن لعودة سريعة للثورة المضادة – وهو ما ذكر به المرزوقي في مناسبات عدة - لكنها استطاعت أن تجعل عودتها مقيدة. ورغم تشرذم قوى الثورة الذي أضر بالنهضة وجعلها مكشوفة الظهر برأيها فإن الوعي الجمعي للتونسيين كان منصفا ومنحازا لقيم الثورة رغم تدهور الوضع الاجتماعي بشكل كبير.

يبقى المرزوقي والغنوشي وبرغم الاختلاف في سرديتيهما يمثلان وجهين لعملة واحدة منقوشة بأيدي "أولاد الحفيانة" ... "أولاد الدواخل " ... مواقع الرفض التاريخية لهيمنة المركز ... والثورة المضادة التي استطاعت أن تقفل قوس المرزوقي سريعا تحاول الآن باستماتة إغلاق قوس الغنوشي الذي لا يختلف بالنسبة اليها عن المرزوقي في شيئ من المنظور الثقافي النفسي.

وكما كان دخول المرزوقي قصر قرطاج رمزا لتغيير معادلة، فإن إصرار الغنوشي على السير في طريقه رمزا لثورة تأبى الخضوع. وسواء أفلح الغنوشي في الوصول أو لم يفلح، فإن صموده يمثل فائض قيمة للثورة يعلو على تنازلاته التي قدمها تحت وقع الإكراهات من حيث حمولته البنيوية الثقافية والنفسية.

لكن طريق النصر بالتأكيد هو في سيناريو تعافي قوى الثورة واستعادة زخمها ومراجعات أطرافها جميعا - وعلى رأسها النهضة - لخياراتها، حتى لا تبعدها تكتيكاتها عن أصلها وعن طبيعتها التي إن بعدت عنها فلن يمكنها ذلك من انتحال طبيعة اخرى ليست لها.

تاريخ أول نشر 2021/6/27