search

بين حماس وأخواتها

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ )

1. لماذا نجحت حركة المقاومة الإسلامية حماس في كسب تأييد أغلب الشعوب العربية في حين بقي تأييد الحركات الإسلامية الأخرى مقصورا على أنصارها؟

هل نجحت حماس وحدها حيث فشلت شقيقاتُها في البلاد الأخرى؟

هل الإخوان في جميع الدول العربية "نصّ" وحركة حماس "نصّ" لوحدها؟

2. ليس يخفى أنّ هذا التأييد لحركة حماس من قِبل أنصار القضية الفلسطينية كان مع طوفان الأقصى ولم يكن قبله.. وهو تأييد لمقاومة يرى الجميع إنجازها فيشيدون به ولا يلتفتون إلى منجِزِه. هي لحظة تأييد يجد الجميع أنفسهم محمولين على مناصرتها حتّى بتأجيل مهاجمتها بسبب مرجعيتها. 

على أنّ بعض أبناء الإيديولوجيات اليسارية هبّوا لنصرة الطوفان، أوّل مرّة، ثمّ خَفَتَ هبوبُهم. وربّما كان بعضُهم يتمنّى لو أنّ حركة حماس لم تكن هي رأس حربة الطوفان.. وتراه يخفّف من وطأة الأمر على نفسه حين يقول إنّ حماس التي تبدع، الآن، في مقاومة الاحتلال لن تكون هي التي تبني زمن الاستقلال.. يصادرون عليها منذ الآن إمكان مساهمتها في البناء غدا، كما لو أنّهم هم مهندسو اللحظتين. هؤلاء يصدرون عن أهوائهم وإن ألبسوا خطابهم لبوس العقل المجرّد الذي سيطروا به على فهم ما يجري وما لم يجرِ. وهم في لباس فهم.

لديّ صديق كان يصرّ على أنّ حركة حماس صناعة صهيونية، ولمّا جاء الطوفان ركب فُلكَها ورفع لواءها كأن لم يسىء ظنّه بها، من قبلُ، ولم يشكّك فيها.

هل حماس استثناء بين حركات الإسلام السياسي؟

ومن أين تأتي استثنائيتُها؟

3. أذكر تجمّعا جماهيريا عقده محمّد دحلان في 7 جانفي 2007.. وقتها كان الاستقطاب بين حماس وفتح على أشدّه في غزّة. كان أنصار دحلان يصرخون بين يديه "شيعة شيعة" في وصم لحركة حماس، أذكر أنّ دحلان أجابهم وقتها: - هؤلاء ليسوا شيعة، أيّها الإخوة، إنّهم قتلة.

يأتي ذلك بعد فوز حماس بانتخابات 2006. لم يقبل دحلان بنتائج الانتخابات ووصفها بالكارثة.. دحلان كان سنة 1996 هو المسؤول عن اعتقال أعضاء من حركة حماس بسبب عملياتهم الفدائية ضدّ قوات الاحتلال.. وقد اعتبره الاحتلال، بسبب نهج القمع الذي سلكه ضدّ ناشطي حماس، شريكا مسؤولا يمكن أن تراهن عليه مؤسسته الأمنية. 

ثمّ انتهت حماس بطرد دحلان وجماعته من غزّة في 2007 لترتّب المقاومة عملها بعيدا عن أعين جهاز الأمن الوقائيّ الذي كان يشرف عليه.

4. لمّا تخلّصت حماس من دحلان وعصابته، في غزّة، أخذت في ترتيب البيت المقاوم بعيدا عن أعين السلطة الفلسطينية وحفرت الأنفاق لتتجنّب الرقابة الملازمة للأرض والسماء.. وجعلت منها أنفاقا استراتيجية وليست مجرّد مخابئ. مكّنت الأنفاق المقاومة من أن تتحرّك تحت الأرض بعيدا عن أعين الرقباء بينما كانت حاضنتها الشعبية تتكوّن فوقها، لينتهيَ الطرفان، المقاومة والحاضنة، إلى اللحظة الحاسمة. 

ولمّا اندلع الطوفان أخذت المقاومة تدافع العدوّ عن شعبها وكان الشعب لمقاومته ظهيرا، ولأنّ الشعب كان هو قوّة المقاومة الرئيسة فقد انتقم جيش العدوّ منه شرّ انتقام ليقلبه عليها.. ولكنّ عناد الشعب وكبرياءه كانا بنزين المقاومة ومحرّكَها رغم ما تجده من وجع بسبب ما يجري على شعبها من جرائم الاحتلال.

تحرّكت المقاومة بعيدا عن رقابة دولة الاحتلال وأعين الأمن الوقائيّ فأبدعت وصنعت طوفان الأقصى الذي أصاب العالم بأسره.

5. في البلاد العربيّة التي ثارت شعوبها على حكّامها فازت الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية بانتخاباتها، وكانت مواقف خصوم تلك الأحزاب من جنس موقف دحلان من الانتخابات في فلسطين، وردّد هؤلاء الخصوم أقوال دحلان، وقالوا عن نتائج الانتخابات كارثة. و"ناضلوا" مثلما "ناضل" دحلان لصدّ "الكارثة". دحلان كان يشتغل لفائدة الاحتلال الذي اعتبره شريكا استراتيجيا، وهؤلاء الذين لم ترضهم نتائج الانتخابات في بلاد العرب الأخرى يشتغلون لصالح الاستبداد شقيق الاحتلال.

6. ولكنّ للمقاومة ما ليس لغيرها. حين لم تجد حماس بدّا من طرد دحلان طردته لتصنع إعجازها. ولم يكن بوسع حركة النهضة في تونس، مثلا، أن تطرد دحلان. كانت لا تملك طرده لأنّ المعركة هنا تحتلف عن هناك. الديمقراطية تقتضي أن تتعايش النهضة مع دحلان الوطنيّ تصارعه فوق الأرض وتصدّ ضرباته الموجّهة إليها.. ودحلان يكيد للنهضة في السرّ وفي العلن يعاملها بمنطق الحرب والمكيدة، بينما تدعوه هي إلى السلم ولا مكيدة.

لم تكن للنهضة أنفاق تخفي نشاطها. منطق الدولة التي انخرطت فيها حزبا قانونيا لا يتوافق مع عمل الأنفاق السرّي. الأنفاق جزء من الحرب بين عدوّ محتلّ يلاحق كلّ شيء وبين مقاومة هدفها تحرير أرضها، وتَخفّيها عن عيون عدوّها عنصر تكوينيّ من خطّتها لا تستطيع أن تقاوم إلّا به.

7. لقد استطاعت حماس أن تفلت من رقابة العدوّ وداعميه فأبدعت طوفانها فكسبت الإعجاب وكان الشعب في غزة ظهيرا لها، أمّا في تونس فبقيت النهضة تحت رقابة خصوم عاملتهم معاملة الشريك وعاملوها معاملة العدوّ. جابهوها بأسلحة أشبه بأسلحة الأعداء وشغلوها بدفع وصمٍ وصموها به. 

أفلتت حماس من وضع الطريدة وصارت إلى مقام المطارِد فأبدعت رغم أنّها تواجه العالَمَ مجتمعا. وبقيت النهضة مطارَدَة لا تُترك لالتقاط أنفاسها حتّى بعد أن أُخرجت من الحكم بحُكم الدبابة. يطاردها، في الداخل، الذين انقلبوا عليها ويطارها داعموهم من الخارج، وما داعموهم غير داعمي دولة الاحتلال. الداعمون هؤلاء الذين يحاربون، مع الأعداء، حماسَ في غزة هم أنفسهم الذين يلاحقون بحربهم النهضة هنا. ولك أن تطالع إعلام دويلة الإمارات التي لا تزال عينها على تونس تصم حركة النهضة بالإرهاب وتبشّر باتصال الإطاحة بها.. ولم يقل أحد عن الإمارات إنّها تتدخّل في شأننا الوطنيّ.

8. حماس تعيش في أرض محتلّة رأت من قَدرها أن تقاوم محتلّها.. ولمّا صارت مقاومته مستحيلا جعلت المستحيل ممكنا وجاءته من حيث لا يتوقّع فقلبت ضعفها إلى قوّة ضاربة وقلبت قوّته الضاربة إلى ضعف مخلّ.

في تونس كان الأمر كلّه ممكنا، ولكن لأنّ الدولة الوطنية تتحكّم في كلّ شيء فقد جعلت الممكن مستحيلا واختارت أن تسلك طريق الاحتلال وتسير في الشعب سيرتها.. وسيرتها فيه القمع والتجويع.. تحت عين الإمارات.. الراعي الرسمي للثورات المضادّة خدمة للاحتلال الصهيونيّ.

9. أظنّ أنّ ظاهرة دحلان ستبقى، في بلاد العرب كلّها، هي العقبة التي تحول دون كلّ تطوّر. ولن يكون، في بلادٍ منها، تطوّرٌ ما دام في الأنحاء دحلان.

10. الرأي أنّ حركات الإسلام السياسيّ التي أثبتت أنّها قادرة على أن تقود مقاومة التحرير لن تكون عاجزة عن قيادة معارك التطوير. هي ليست حركات إيديولوجيّة وإن وصمها خصومها بذلك لتكون من جنسهم. وليس من المصادفة أنّ القوى التي جعلت من هدفها القضاء على حماس شرطا لبقاء دولة "إسرائيل"، هي نفسها تلك التي جعلت من هدفها القضاء على شقيقاتها في بلاد العرب.. وما ذلك، في حقيقة الأمر، إلّا حماية لإسرائيل. وليس خافيا على أحد أنّ الانقلاب على إخوان مصر كان مقدّمة لكلّ هذا الصمت المخزي على إجرام دولة الاحتلال في فلسطين.

11. هذا الرأي لا يعدو رفعا لتلبيس يعمل عليه بعض الناس حين يقولون إنّ حماس لا تشبه أحدا، ولذلك أبدعت. كلّا، إنّ لحماس شبيهات. ولم تكن زيارة إسماعيل هنية إلى تونس في زمن الترويكا إلّا قبولا لضيافة من شبيه.. والشبيه يطمئنّ إلى شبيهه.. يتأثّر به ويؤثّر فيه.

 كيف نسمح بجماعة ترى مرجعيتها في دولة أجنبيّة لمجرّد صفة "شعبيّة" ولا نقبل بأن تكون لحماس شقيقات لها يتكلّمن كلامها؟ منطق لا يقبل به عقل.

12. الإصرار على أنّ المقاومة في غزّة ليست أكثر من بقعة ضوء يتيمة في أمّة معتِمة لا يليق.. فيه عناد ومكابرة وكسل.. وعدميّة. الذين أغلقوا أذهانهم على مسلّمة أنّ الإخوان شرّ مطلق لا أمل فيه أحرى بهم أن يفتحوا ثغرة في جدار الذهن من أن يتلوّوا ليبرّروا يقينهم القديم ليخلدوا إلى نومهم مرتاحين.

 المفاجأة التي أوقعتها حماس ليس ممنوعا وقوعُها من شقيقاتها...

 ولكنّنا نعاند.