search

بين فتح كابول وفتح دمشق

غني عن التأكيد أن هناك اختلافات بين سوريا وأفغانستان تاريخية واجتماعية وجيوسياسية وجيوستراتيجية، و في أسباب ودواعي الثورة في البلدين. وتلك الاختلافات تقف ولا شك وراء مساري الثورتين، اللتين بدأتا في عام واحد سنة 1979، ولكنهما افترقتا في منعطفات الطريق وشعابه ودروبه، حتى كان فتح كابول في صيف سنة 2021 بعد انتكاسة الفتح الأول سنة 1989 إثر الانسحاب الكامل للجيش السوفياتي، بسبب تناحر الفصائل المجاهدة أساسيا. ولم تفلح حركة طالبان التي افتكت البلاد من الفصائل المتناحرة في المحافظة على الفتح، وسقطت حكومتها بعد أحداث 11 سبتمبر، ودخلت في حرب ضد تحالف دولي ضم قرابة 50 دولة تقودهم الولايات المتحدة 20 عاما، إلى أن قررت الولايات المتحدة الانسحاب من البلد بعد أن منيت بخسائر ثقيلة، وبعد مفاوضات عسيرة استمرت سنة كاملة وقعت على إثرها على اتفاق بينها وبين طالبان لم تلتزم ببنودها وانسحبت دون أن تسلم الحكم لطالبان.

وأهم استنتاج يمكن ملاحظته من وقائع الفتحين هو أنه، بقدر ما كان قرار أمريكا وحلفاؤها بل وأغلب الدول هو عدم الاعتراف والحصار لحكومة افغانسان، فإن الظاهر أن قرار المجموعة الدولية وعلى رأسها أمريكا هو احتواء الحكم الجديد في سوريا.

وفي حين رفضت حركة طالبان تقديم تنازلات لأمريكا حتى الشكلية منها - حاول الوفد الأمريكي المفاوض تغيير الاسم المعتمد من طالبان وهو: إمارة افغانستان باسم آخر مثل دولة أو جمهورية أو غيرها، ولكن الوفد الأفغاني رفض ذلك - وأصرت على استقلال قرارها وقرار الشعب الأفغاني، ولم تفتح للأمريكان أو غيرهم كوة يمكن من خلالها الدخول للتأثير في الشؤون الداخلية لأفغانستان. في المقابل يبدو من خلال متابعة ما يجري أن هيئة تحرير الشام وعلى رأسها أحمد الشرع قد مهد للفتح بسنوات، تسويق نفسه وحركته للقوى الدولية وعلى رأسها أمريكا، والتنسيق مع أطراف عديدة وعلى رأسها تركيا وأمريكا في العمل الاستخباري، الذي قاد إلى عمليات تصفية لداعش والقاعدة ويقال أن منها تصفية أبو بكر البغدادي. وإلى جانب العمل والتنسيق والتعاون الاستخباري والميداني لاسيما مع تركيا، برز أحمد الشرع بنهج فكري وسلوكي جديد، نأى به عن الرؤية السلفية الجهادية، إلى رؤية تقترب إن لم نقل تتماهى مع الرؤية الإخوانية. هذه التحولات عند أحمد الشرع كشفتها بوضوح قراراته وتصريحاته التي أدلى بها تباعا منذ بداية عملية ردع العدوان.

لذلك لم تصمد محاولات إجهاض الفتح رغم خطورتها وخطورة المتبنين لها من إسرائيل ومحور الشر العربي ( الإمارات ومصر والسعودية والأردن).

يبدو من خلال المتابعة أن حسن إدارة المعركة، وخاصة عملية الدخول السلمي للمدن، والعفو عن جنود جيش النظام، والجهد الديبلوماسي الذي قامت به تركيا أساسا وقطر، وملاحظة الارتباك الروسي والايراني، والتجاهل الأمريكي والصهيوني، قد أفهما الجميع أن عصر بشار قد انتهى، وأن هناك ضوء أصفر قد أشعل للشرع، فكان الالتحاق بالركب ولو على مضض.

إذا فقد غيرت الأطراف الدولية ودول الجوار بشكل عام خطة الإفشال بخطة الاحتواء، وهو ما يعني بالنسبة للبعض الإفشال عن طريق الاحتواء. والإفشال يبدأ بالتأثير على القرار السوري، وضمان كل طرف متدخل لمصالحه، وقد ينتهي بإسقاط الشرع ومن معه وتكوين قاعدة حكم "تشبه" ما عليه بقية الحكومات التي تخضع للهيمنة الأمريكية الصهيونية. وهذا هو خيار حكومات الشر العربي الذي لن تحيد عنه ولن تقبل بغيره بديلا.

قد يبدو الظهير التركي مختلفا نوعا ما عن بقية المحور، لكن ارتباطه الوثيق بالمصالح الجيوسياسية والجيواستراتيجية، يحمل من عناصر الضعف بالنسبة للمصالح السورية، بقدر ما يحمل من عناصر القوة. وإذا كان من مصلحة تركيا دولة سورية مستقلة ونامية وموحدة وخالية من جيب كردي يهددها ، فإن تداخل المصالح والأحلاف وموازين القوى لا يتيح لتركيا التحرك بحرية لتكون ظهيرا مضمونا.

يبدو أن الشرع قد اختار خطته بناء على وعي كامل بتعقد الوضع السوري داخليا وخارجيا، وعلى إدراك لثقل تركة الدمار شبه الشامل الذي ترك عليه بشار البلد، وعلى إدراك أيضا أن كل تلك التعقيدات لا يمكن أن يصمد بها خيار الاستقلالية الكامل، فأقدم على أهون الشرين، معولا على قدرته وقدرة الشعب السوري ونخبه والمخلصين من الحلفاء على الوصول إلى الاستقلالية من خلال "مداعبة الأفاعي وتنويمها"، و" المشي على أطراف الأصابع في غابة من الألغام".

ما قرر الشرع انتهاجه، هو أشبه شيئ بما تم مع الحركات الاستقلالية لبلداننا على اختلاف في درجات ذلك، حيث كانت كلها تقريبا استقلالات منقوصة أو مشروطة باتفاقات بعضها سري وبعضها علني، وقد قبل بها "الزعماء" اعتمادا على "سياسة المراحل" التي لا غنى عنها.

لذلك فما سيعترض سوريا من سياسة الاحتواء، التي ستتخذ كل الوسائل الناعمة والخشنة، ما يجعل مصير ثورتها ودماء شهدائها وتضحيات شعبها واستقلال قرارها وحريتها تحت التهديد المتواصل، ولن يقوي شكوكتها وصلابتها إلا الوحدة الصماء - وهي مطلب عزيز - والظهير القوي - وليس لها من ذلك إلا تركيا - وهو ما نرجوه.

ربما ساعد اختلاف الموقع الجيوسياسي والجيواستراتيجي أفغانستان إلى أن تكون "أكثر تحررا" من ضغوطات الجوار بالحجم الذي تبدو عليه سوريا، لكن دون أن ننقص من قيمة العامل الذاتي الخاص بطبيعة الأفغان المستمدة من طبيعتها الجبلية التي انعكست على أخلاق وشخصية شعبها فأورثت تاريخا قهرت خلاله الامبراطوريات. وقد فضل قادة طالبان الصبر على الحصار، الذي تبنته كل دول العالم تقريبا، على الخضوع لسياسة الاحتواء. وها هي سياستها تؤتي أكلها من خلال صمودها لأربع سنوات برغم الحصار وتجميد أموالها، وتفرض على الآخرين احترام قرارها، إذ بدأت بعض الدول وعلى رأسها الصين تخرق الحصار ولو بتعلات وصيغ ديبلوماسية شكلية.

تبدو أفغانستان بموقفها الصامد تجاه الحصار نموذجا لمسار مختلف، يفضح العالم أجمع ولا سيما الولايات المتحدة، التي رفضت حتى الالتزام بالاتفاقية التي وقعتها، ولم يتورع أحد مسؤوليها إلى أن يصرح أخيرا أنهم سيستمرون في عدم الاعتراف بأفغانستان بسبب "الانتهاكات ضد المرأة والفتيات" ! وهي فرية سخيفة.

اختار الأفغان الاستقلال الحقيقي بدون شروط، بعد حرب ضروس دامت عشرين عاما، كانت في عشر منها الولايات المتحدة تلهث وراء طالبان من أجل التفاوض. ولما قررت طلبان الجلوس لطاولة المفاوضات، خرجت أمريكا منها بيد فارغة والأخرى لا شيئ فيها، واستعاد الأفغان بلدهم حرا عزيزا، وها هم صامدون ويحققون نتائج جيدة على كل الأصعدة رغم الحصار، وكلهم ثقة أن مستقبلهم سيكون أفضل.

استفادت طالبان من تجربتها الأولى وتحولت فكرا وممارسة في حكمها الجديد ... تغيرت ... إلا شيئا واحدا لم يتغير ... استقلال قرارها وحرية شعبها واعتزازها بإسلامها وتاريخها.

في المقابل اختار السوريون القبول بسياسة الاحتواء، لأن طريق الاستقلال لم يكن متاحا كما هو للأفغان. وهذا يعني أن الطريق إلى سوريا حرة مستقلة لا زالت تحفه أخطار عدة عن يمين وشمال ومن فوق ومن تحت ... وليس لهم من عاصم إلا وحدتهم ... ونرجو لهم ذلك ... لأن انتصارهم هو انتصارنا بلا شك ..

تاريخ أول نشر 2025/1/3