كنا في الربع الأخير من القرن المنصرم نستهجن مصطلح الاصلاح، وفي المقابل نحتفي ونركز على توصيف أفكارنا ب "التغيير" و"الثورة" و"الجذرية" (الراديكالية) و"البنيوية" (بمعنى تغييرا في البنية وليس جزئيا أو سطحيا أو موضعيا) ...
في القرآن كتابنا الهادي الخالد ... لا وجود لاسم "التغيير" وإنما فعل التغيير : "يغيروا" في آيتين .... "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" ... "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ" ومضمونهما تحول من الأحسن للأسوء ! لاحظ ان العامة في فهمهم أقرب لفهم القرآن حيث يستعملون الجملة التي تشمئز من التغيير : "الله لا يغير علينا" ..… في المقابل يستعمل القرآن اسم "الاصلاح" وفعل "أصلح" كممارسة إيجابية وتحول من الأسوء للأحسن ... بل جعلها مهمة رسول الله شعيب ودعوته ... "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" ... وعندي ان ذلك يعني أن الأصل في فطرة الانسان الصلاح وأن الفساد طارئ عليها ... وأن الفساد مهما ران لا يمكن ان ينسف بذرة الخير فيه ... حتى من طبع الله على قلوبهم "يؤمنون قليلا" ... والمنافقون الذين هم بفعلهم في الدرك الأسفل من النار ... قد يتوبون ويكونون "مع المؤمنين" ... لكن الأهم في ما يبدو لي هو ان "التغيير" مهما كان جذريا وحادا وحاسما فلن يستطيع قلب سلوك الافراد والمجتمعات... ذلك أن بنية المجتمعات والافراد تستعصي على التحولات الجذرية الا بشكل استثنائي جدا .... فهي حتى وإن تنحني امام عاصفة التغيير الهوجاء، سرعان ما تستعيد توازنها، وتخضع فعل التغيير الى ميكانيزماتها القائمة على "الانتزاع" الدقيق الحذر لكل سلوك سلبي، و"الترسيخ" الدقيق والحذر لكل فعل إيجابي ... سواء كان ذلك اعتقادا أو ممارسة ... وتطور علم أعصاب الدماغ تعطي صورة دقيقة على "التمظهر المادي" في الجهاز العصبي للتحولات السلوكية عند الانسان الفرد .... ولا تخرج المجتمعات عن تلك الميكانيزمات ... والمتأمل في حركة التاريخ يلاحظ ان التحولات الثقافية والاجتماعية والنفسية بعيدة كل البعد عن مفهوم التغيير الجذري و عن مفهوم القطيعة والانقلاب ... كل ذلك ليس له نصيب في الواقع إلا على شكل "صدمات" تُستوعب ارتداداتها في شكل عملية "امتصاص" او "تعديل ذاتي" ....
ومن العجيب ان الدراسات التاريخية والانتروبولوجية تبين انه حتى التحولات الكبرى وعلى رأسها الرسالات السماوية إنما جاءت متساوقة مع السياق الثقافي والنفسي في اللحظة التاريخية، بحيث تمثل في عمقها تطورا طبيعيا وليست انقلابا جذريا ولا تغييرا فجئيا ... من ذلك نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ... ومن درس الجزء الأول من كتاب جعيط في السيرة يستطيع إدراك هذا المعنى في عرضه للاطار الثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه الرسالة المحمدية.... غير ان الذين ليس لهم الإلمام الكافي بالمنهج الانتروبولوجي قد يبدو لهم الأمر تبخيسا لشأن النبوءة والرسالة وما هو بذاك ....
تاريخ أول نشر 11\4\2022