معلوم أن منير شفيق وثيق الصلة بالشيخ راشد، وهو غالبا ما يساند كل خطواته داخل الحركة وخارجها. وحتى عندما يحصل بعض التباين في قضايا معينة ( الموقف مما يحدث في سوريا مثلا )، فإنه لا يفصح عن معارضته المباشرة له. لكننا وللحقيقة نقول أن منير شفيق عموما لا يساند حركة "النقد الجذرية" التي تمارس داخل التنظيمات الاسلامية من قبل بعض أجنحتها. ومن الحقيقة أيضا نقول أن منير شفيق يولي دائما أهمية كبرى للعامل الخارجي، ومن زاوية القدرة على إدارة الصراع، التي تستعمل فيها الاستراتيجيات والتكتيكات بشكل مختلف عن التقعيد النظري لها فيما يبدو من فهمه، ويقع التركيز فيها على النتائج على الارض، لا على الوقوف على سلامتها المنطقية من حيث الاولويات ومن حيث آثارها البعيدة على التحولات القيمية.
في هذا الإطار أتقدم بالملاحظات التالية على المقال :
أولا : سيكون النقاش أفضل لو كان الحديث عن "التداول القيادي" وأهميته وليس فقط الحديث على "نظام الدورتين". فتحديد مدة البقاء في المسؤولية السياسية وصلت اليها الانسانية بعد تجربة طويلة في مقاومة "الاستبداد"، وما يؤدي إليه طول المكث في المنصب من استبداد بالرأي واستبداد بالملك، الذي يحول الفرد الى مُستبدا به من طرف البطانة التي تتكون طبيعيا حوله. وكذلك تكلس الفكرة والقدرة على التغيير، وفتور الهمة والعزيمة، واستحكام البيروقراطية، و"الهروب بالقائد" عن ساحة الفعل وعزله عن الناس بسطوة "الحجابة".
وهذا مما أكد عليه الشيخ راشد نفسه في كتابه الحريات العامة، لكنه استثنى ذلك في قيادة الأحزاب. وهو استثناء ربما كان مبررا في التنظيمات السرية، على نحو ما كانت عليه الحركة سابقا، حيث أن "مصالح" كثيرة وظروف المقاومة لا تجعل من السهل ممارسة التداول القيادي. لكن ممارسة التداول القيادي في التجارب الحزبية في الانظمة الديمقراطية، التي تخضع لانظمة قانونية واضحة ومراقبة من حيث الوظائف و التسيير و التدبير ممكن. بل إنه تطور بشكل جعل الحزب يتماهي في هذه النقطة مع التداول القيادي في الحكم، الذي يمارس غالبه نظام الدورتين، فتتجدد قيادته في انتخابات شبه عامة، ولا تقتصر على أعضاء الحزب بل إنها تعد مقدمة للإنتخابات العامة في البلاد.
وإذا كان الحزب في الديمقراطيات الحديثة هو أساسا حزب للحكم . فقد ارتبطت قيادته من حيث استمرارها أو تغييرها أساسا بالقدرة على قيادة الحزب للإنتصار في الانتخابات الرئاسية أو التشريعية بحسب أنظمة البلاد. وإذا كانت بعض الاحزاب سمحت لبعض زعمائها بالاستمرار في قيادة الحزب والترشح للإنتخابات الرئاسية، فإنها قطعا لم تسمح لزعيم فشل في انتخابات التجديد أو بعد انقضاء دورتيه بقيادة الحزب من جديد.
يعني أن التجارب الديمقراطية تدفع الى اعتبار قيادة الحزب وقيادة الدولة مرتبط بعضه ببعض، وجعلت انتخابات الاحزاب ترتبط بانتخابات الحكم. من ذلك أن أغلبية الأحزاب تعقد مؤتمراتها قبيل المؤتمرات العامة، وترشح زعمائها لها تتطور أشكاله بشكل يقارب الترشح للإنتخابات العامة. وعندما يفشل زعيم في قيادة حزبه للإنتصار يستقيل مباشرة ويعقد الحزب مؤتمرا استثنائيا لتجديد القيادة.
و هذا تطور منطقي في التجارب الديمقراطية، وسعي انساني نحو مقاومة الاستبداد كأحد أهم معضلات الحكم في تاريخ الانسانية.
أما عن الأمثلة التي ذكرها منير شفيق، فهي كلها مختلف عليها، وليس هناك ما يصلح أن يقدم دليلا على نجاح عدم الأخذ بنظام الدورتين.
و مع ذلك فهناك جوانب لا يجب إغفالها. منها أنه برغم تطور الوضع الديمقراطي في البلاد، فإن الحركة لم تتحول بعد إلى حزب بالمعنى التقليدي للكلمة، ولا أن التجربة الديمقراطية قد تطورت بشكل يقارب التجارب الغربية. لا زلنا في مرحلة انتقالية لا تجعل من اليسير التعامل مع مسألة التداول القيادي بسهولة لا تقتضي إلا الانضباط لنص قانوني تم تمريره بشكل ديمقراطي شكليا لكنه لم يصل بعد الى نص مشبع بثقافة ديمقراطية حقيقية. لا زال "إرث" الحركة ثقيلا و"مصالحها" معقدة، وليس من السهل نقلها من سلف إلى خلف. كما لا زالت قواعد الصراع معقدة، ولا زال جزء مقدر منها مرتبط بشخص رئيس الحركة، ومن المكابرة الادعاء بأنه يمكن تمريرها في حقيبة يسلمها إلى غيره.
وظني أن هذه المرحلة الانتقالية يمكن أن تشهد نهايتها في أفق محدود تحتمه عوامل كثيرة، ولكنها لن تكون بناءة وإيجابية إلا في إطار وعي مشترك وعمل مشترك يجعل الجميع وفي إطار من الثقة المتبادلة يبنون مستقبلا بعزيمة الباحث عن النجاح .
ثانيا : يزري منير شفيق بالإدارة المؤسسية والعمل المؤسسي، ويجعله كأنه قيادة جماعية مقابل قيادة فردية. وهذا شيئ غريب منه، ومحاولة بينة في الميل بكفة النقد. وإلا فإذا كان للإدارة المؤسسية مثالب، فللإدارة الفردية مثالب أكبر، خاصة في أنظمتنا وثقافتنا الممتلئة بالتقديس والخضوع للزعيم. لكن التجارب الانسانية كما حاولت اختراق الادارة الفردية بالمؤسسات الرديفة، فإنها أسست للإدارة المؤسسية نظاما يقف صامدا أمام تشتت القصد والعمل فيها. ليست الادارة المؤسسية بما وصلت اليه التجارب الادارية المعاصرة مجرد "شركاء متشاكسون"، انها نظام قائم على حوكمة فاعلة وخاضعة لأسس تعاقد وتوصيف وظيفي واجراءات متابعة ومراقبة وقبل ذلك الى نظام قيم موجهة ومحفزة وثقافة ترسخت مع الزمن في مجتمعات وهي في طريقها للترسخ في مجتمعاتنا.
ثالثا: اما "ثالثة الأثافي" فهي "شرعية" الأخذ بنظام الدورتين !!! و هي أضعف حجة يقدمها .... ذلك أن مسائل الحكم كلها ليس لها في الشرع إلا التأكيد على مقاصدها العامة .... و يكفي ردا عليه ما أجمع عليه العلماء والدارسون من الأخذ بمقولة ابن عقيل التي أوردها ابن القيم " فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها.فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل".
رابعا: يدعو منير شفيق المعارضين إلى"الانفصال بإحسان" و"يفتي" لهم "بعدم حرمة ذلك" .... إنها رسالة تقول "شكر الله سعيكم" .... و"أرض الله واسعة " فلا تضيقوا على أنفسكم ولا تضيقوا على غيركم ... ولأنها رسالة فليس لي ما أعلق عليها غير أنني كنت دعوت منذ زمن بعيد إلى أن كثيرا من الخلافات التي منشؤها الاختلاف في الرؤى والبرامج يمكن لبعضها أن تستوعبه الحركة و لكن بعضها الآخر لا يمكن إلا أن يحل بتفرق محمود. فهل أن الخلاف الحاصل الآن من النوع الأول أم من النوع الثاني أم أنه دون ذلك بكثير؟ في تقديري أن الـ 100 موزعون بين هذه المستويات الثلاث، و لكنهم أو أغلبهم يمارسون الإنكار، و لا يريدون مواجهة الحقيقة كما هي، وأحيانا يستسهلون ممارسة " السياسة الصغيرة" على تجشم الصعاب وركوب السحاب....
خامسا : من دون "أكمة" كما يرى منير شفيق، هناك خلافات جوهرية حتى وإن لم يعيها أصحابها مرتبطة بالاختيارات التي شقت وتشق الحركة من زمن بعيد. ولكنها حلت في الماضي ويراد لها الآن أن تحل بممارسة "الأساليب النقابية" حتى لا نستعمل مصطلحات أخرى. لكن المؤسف أن بعض الاختيارات ذات الطابع الثقافي / الدعوي لا يقبل التمكين لها بممارسة تلك الأساليب، ولا باستعمال وسائل العمل السياسي وعلى رأسها الحزب كإطار للعمل ... وتلك أكبر مساوئ الازدواجية التي أشربها أبناء الحركة وخاصة النخبة.
كخلاصة أقول لم يقنعني"دفاع" منير شفيق مع احترامي له فهو أستاذنا .... لكنني كما كتبت سابقا أعتبر ما أقدم عليه أصحاب العريضة خاطئا مضمونا ومنهجا. وأرى أنهم انجروا إلى ما هو أسوء برسالتهم الثانية التي كانت أشد "سقوطا" من رسالتهم الأولى ..... وأرى أنهم ضيقوا على أنفسهم وعلى غيرهم البحث عن مداخل للتوفيق.... وأرجو أن أكون مخطئا ....
تاريخ أول نشر 2020/10/18