search

تونس .. المأزق والمخرج

"كثيرون حول السلطة وقليلون حول الوطن" غاندي

من يتأمل المشهد التونسي اليوم بعد مرور أزيد من سنة على تسلم السلطة من قبل حركة النهضة وشركائها، يلمس بوضوح تلك الحقيقة التاريخية التي تؤكد بان مرحلة ما بعد الثورة هي اصعب بكثير من الثورة نفسها، وهي حقيقة مثلما يصدقها التاريخ يؤكدها بشدة الواقع الراهن، ليس في تونس فحسب وانما في كل البلدان التي شهدت ثورات او انتفاضات كبرى، قادت الى تغييرات جوهرية في انظمة الحكم السائدة في تلك الاقطار. وربما يكون افضل تعبير عن المشهد السياسي اليوم في تونس وباقي اقطار ما يسمى بالربيع العربي، هو ان الصراع الذي ساد طيلة الخمسين سنة الماضية لم يتغير في جوهره حيث لا يزال التدافع بين منظومتي "الحداثة والتغريب" من جهة و"الهوية والاصالة" من جهة أخرى على اشده. كل ذلك يتم في تقاطع مطرد مع اصطفاف حثيث لانصار الثورة الذين يصرون على اتمامها والوصول بها الى النهاية في تحقيق اهدافها ومآلاتها، مقابل انصار الثورة المضادة أو المتضررين من نتائجها. فالثورة في مفهومها التاريخي ليست سوى صراعا بين الماضي والحاضر، والطريق الى انجازها ليس مفروشا بالورود اطلاقا.

إن تسارع الاحداث وتطورها بشكل خطير في الساعات الاخيرة، يستدعي اكثر من أي وقت مضى التوقف، وإن كان ذلك يصعب على الكثيرين، خاصة في هذه اللحظات الفارقة، و في ظل تزاحم التحديات، من أجل تعديل البوصلة، وتقويم التمشي، وتصحيح الأخلال، حتى نمنع الفشل وننقذ ما أمكن انقاذه فبل فوات الاوان.

الأخطاء الثلاثة التي قادت الى المأزق

قد يكون مجديا التحليل من خارج الاطار المباشر للفعل، لان النظرة من الخارج في الغالب تكون اعمق من الداخل، ذلك أن الداخل والمقصود به منظومة القرار والقائمين عليه لا يستطيع التحرر بكل سهولة من كوابح تلك المنظومة والخلوص الى التقويم الموضوعي الصارم للتجربة بما لها وما عليها بهدف التصويب اوالتعديل او المراجعة. تقود هذه النظرة من الخارج الى تراكم ثلاثة اخطاء منهجية جلية، قادت الى المازق الراهن الذي يلقي بظلاله المشحونة على مستقبل التجربة والبلاد بشكل عام.

الخطأ الأول: التهافت على الحكم دون الجاهزية له

لا شك ان المسؤولية ملقاة على الجميع، وفي مقدمتهم مؤسسات القرار والنافذين فيها، الذين دفعوا ودافعوا وتدافعوا في نفس الوقت الى مسك زمام السلطة وتحمل المسؤولية في ظرف يجمع الكل على خطورته وتعقيداته ومخاطره. لقد كان السؤال مطروحا و لاشك وبكل قوة في البداية، ولكن الممسكين بالقرار لم ينصتوا الى الراي الاخر، ولم يسعوا الى فهم مبرراته واستيعاب مقوماته، بل اندفع الكل لأخذ الكل، غير عابئين بحجم المسؤولية وضخامة الامانة، منطلقين من اعتبارات كانت تبدو وجيهة من حيث التساوي في الجاهزية وغيابها عند الجميع من جراء الفراغ الذي ادت اليه الاوضاع في تلك اللحظة. ولكن اصواتا كثيرة كانت تنادي بعدم وجاهة هذا الراي، وتنبه الى عواقبه وأخطاره، وأن المصلحة كانت تقتضي التوجه إلى أخذ مسافة ما من السلطة، والاعتماد على حكومة كفاءات تقود المرحلة الانتقالية، وتفسح المجال للإعداد والاستعداد والتأهل .

لقد تقدمت الحركة للحكم و ليس لديها حسم في مسائل جوهرية تخص كيانها الخاص، من مثل العلاقة بين الحزب و الحركة، و بين الحزب و الدولة، وموقع الدولة من المشروع (مشروع الحركة ): هل هي جزء منه أم أنها اختزال له؟ وبدا أن الحركة لم تستوعب درس التجارب الأخرى، و منها من ندعي التقارب معه، لا في الوجه السلبي الممثل في التجربة السودانية ولا في الوجه الإيجابي الممثل في التجربة التركية. و سلمت الحركة نفسها للمزاج العام الذي طبع تاريخها وشخصيتها، و الذي يتسم بالتسرع و فقدان النفس المثابر العميق، الذي لا ينسلب أمام اللحظي والآني على حساب البعيد والاستراتيجي. لا بل إن الحركة لم تصبر على صياغة تقييم جامع لتجربتها يؤمن استئنافا جديدا قائما على إعادة بناء للوعي يمسح الرؤية العقدية و الفكرية و التحليلية والمناهج التغييرية والتنظيمية والإدارية.

الخطا الثاني: تغليب الولاء على الكفاءة في اسناد المسؤولية

إن الإقدام على السلطة وتحمل المسؤولية برغم ضعف الإعداد والاستعداد له، كان يقتضي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، واعتماد معايير الكفاءة أولا وثانيا وأخيرا، بحكم طبيعة المرحلة ودقتها وحجم المصاعب المنتظرة فيها. لكن ما حصل من إسناد المسؤولية على غير تلك الاعتبارات، رغم تنبيه العديدين من الداخل والخارج على خطورة ذلك التمشي، حتى كادت الصورة العامة تبدو وكانها عملية اقتسام لغنيمة قد لا تتوفر في فرصة اخرى، كل ذلك اضعف كثيرا من مصداقية الحركة وشكك في ثوابتها التي طالما بشرت بها، مما اثر كثيرا على رصيدها القيمي والاخلاقي وصورتها لدى انصارها والكثيرين من عموم الناس، واضحت المقارنات متداولة بين ممارسات "العهد البائد" ومممارسات "العهد الجديد".

وقد أثبتت التجربة صحة هذه الانطباعات، وكشفت عن عجز صارخ لدى الكثيرين ممن تبوؤا المناصب والمسؤوليات، في غياب الكفاءة والأهلية والمهارة فضلا عن الخبرة، الى جانب ضعف فادح في التواصل والإعلام والتصدي للحملات المضادة، انتج كل ذلك صورة سلبية لدى الرأي العام.

الخطأ الثالث: اتخاذ القرارات الصائبة في الاوقات الخاطئة والعكس صحيح

صاحب تلك الممارسات الخاطئة منهج مماثل من حيث التردد والاضطراب في ممارسة السلطة ومقتضيات الحكم من جهة، و اتخاذ القرارات الصحيحة في الاوقات الخاطئة أو القرارات الخاطئة في الاوقات الصحيحة. والتدليل على ذلك لا يستدعي جهدا كبيرا. لقد كان تحقيق أهداف الثورة مطلبا لا يختلف عيه اثنان قبل مجيئ الحكومة الحالية، بل اتخذت بشانه قرارت وتوجهات واعتمدت آليات لم تفلح الحكومة الجديدة في استثمارها والبناء عليها، واهدرت فرصا تاريخية في تقنين تلك المطالب، مثل تحصين الثورة والإسراع بمحاسبة المفسدين وتطمين الناس بوضع ملف العدالة الانتقالية موضع التنفيذ، ناهيك عن تحول المجلس التاسيسي الى ما يشبه سوق عكاظ لم يفلح إلا في المناكفات السياسية والتجاذبات الحزبية الممجوجة من قبل الجميع.

لم يكن مطلوبا تحقيق المعجزات الاقتصادية والتنموية، و لا معالجة المشكلات الاجتماعية المزمنة بين عشية أو ضحاها، فذلك أمر لا يقول به عقل راجح، وإن كان من الممكن تحقيق بعض الإنجازات الملموسة المتعلقة بحياة الناس وظروفهم المعيشية المتردية باطراد. ولكن ما كان مطلوبا هو تفادي الأخطاء القاتلة والممارسات السلبية التي مجها الناس طوال فترة الاستبداد والفساد، والاسراع بطي صفحة الفترة الانتقالية وإنجاز الدستور والوصول الى الإنتخابات. لقد أهدرت فرصة ذهبية لتقديم صورة إيجابية ناجحة في هذا الاتجاه.

الرهانات الخاطئة

واليوم وبعد هذه الحصيلة الواضحة والمازق الذي تأدت اليه الاوضاع، بسبب الاخطاء المنهجية الثلاثة المذكورة، فضلا عن ضخامة الاستراتيجية المضادة وتآمرها المكشوف من أجل إجهاض التجربة بكل الاشكال والاساليب، واصرارها على ذلك دون اعتبار أي مصلحة وطنية كبرى ولا أي طريقة ديمقراطية في التداول على السلطة، أليس من الأجدر والأجدى تجنب بعض الرهانات الخاطئة التي لا تزيد إلا في تعميق الأزمة واستفحال الصراع ودفع التدافع الى الخيارات القاتلة؟ أليس من المطلوب التنادي إلى توسيع الشورى وتجميع الأفكار الفاعلة والفعالة لتجنب المحظور وإنقاذ السفينة؟ لماذا لا تدعو مؤسسات الحركة الى تعميق الحوار الداخلي والخارجي واستنفاذ كل السبل لتفادي الكارثة لا قدر الله؟

إن ما نشهده على الساحة يوما بعد يوم ولا سيما منذ تفجر الأزمة في أجلى مظاهرها اثر مؤامرة الاغتيال المحبوكة، لا يدل على شيء من ذلك بل على العكس تحولت أدوات الصراع إلى الشارع وتحشيد الجماهير والأنصار وتعميق الاصطفاف والاستقطاب واعتماد خطاب التحريض والتصعيد والهروب إلى الأمام بدل الحرص على التهدئة ودرء الاحتقان .

هل المراهنة على الشارع سوف يرفع الاحتقان والتوتر ويساهم في إرساء التهدئة وتنقية المناخات أم العكس هو المنتظر والأرجح ؟ هل الإصرار على استعراض العضلات والمزيد من التصعيد هو سبيل إلى الحل والخروج من الأزمة أم هو من قبيل صب الزيت على النار وتغذية الصراع وتكريس الاستقطاب؟

لا شك أن البلاد بأمس الحاجة اليوم إلى نزع فتيل الصراع وتقليص التجاذب وترشيد الخطاب ونبذ العنف مهما كان شكله أو مأتاه وترسيخ الحوار والتصرف بكل مسؤولية وأمانة .

المخرج

في سياق هذه التطورات الخطيرة، واحتدام الصراع وتعاظم التهديدات لتقويض الوضع والارتداد الى الماضي، كان لا بد من مخرج من هذا المأزق الوخيم، و لابد من مبادرة لدرء الانهيار، فكانت مبادرة رئيس الحكومة والأمين العام للحركة مخرجا من جملة المخارج التي كان من الضروري التفكير فيها واستثمارها وتكييفها مع مقتضيات الوضع ومتطلبات الإنقاذ. ليس مطلوبا الوقوف في مثل هذه اللحظات الفارقة عند الشكليات والضوابط رغم أهميتها في صلب الاحزاب والحركات والجماعات، ولكن المطلوب هو إعمال فقه الموازنات وتغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة ومصالح الوطن والمجموعة على مصالح الافراد والحركات.

إن التعاطي لحد الآن مع هذه المبادرة النوعية والجريئة في تاريخ الحركة والبلاد لم يكن بالشكل المطلوب، ونأمل ان يتم تصحيح الموقف بالسرعة الممكنة قبل فوات الأوان. نأمل أن يتغلب العقل على العاطفة والفعل على رد الفعل وترجيح المصلحة على المغامرة في المجهول والوعي بدقة اللحظة وخطورتها على التعنت والتكلس والنظر الى الجوهر والأولويات بدل التشبث بالأشكال والجزئيات .

إن الإصرار على حكومة ضمن الدائرة الائتلافية القائمة، و التي لم تفلح جهود توسيعها، و لا يتوقع ذلك إلا بشكل مسرحي بالكتل المصطنعة داخل المجلس التأسيسي التي لن تبلغ بالائتلاف إلى ثلثيه. إن ذلك الإصرار لا يزيد الوضع القائم إلا تعقيدا، ولا يدفع بالبلاد إلا نحو المجهول، لأن هذه الأحزاب المعنية بالبحث عن التوافق في هذه اللحظة قد عجزت عن ذلك طيلة الأشهر الثمانية الماضية التي طرح فيها موضوع التحوير الوزاري حتى تحول إلى موضوع محزن ومضحك في نفس الوقت. فكيف ستصل هذه الاحزاب وهي مفككة أكثر من ذي قبل إلى تحقيق هذا الهدف الصعب وفي هذا الظرف الحساس؟ أليس من الأصوب اختزال المرحلة الانتقالية، والانكباب على إنجاز ما لم يتم إنجازه من الأولويات الأساسية التي ينتظرها الناس، لإنقاذ الانتقال الديمقراطي وفسح المجال للأحزاب للتنافس النزيه وفرز الأمور عبر الصندوق؟

أليس من مصلحة النهضة أن تصدق في شيئ مهم، و هو أن تسلم للشعب دستورا لتونس الجديدة، يكون حسنتها التي ستغطي عورة التسرع لحكم لم تستعد له و لم تحسن إدارته، فتنقذ نفسها و تنقذ تونس أيضا؟ و يقيننا أن الشعب سيقدر ذلك عاليا و سيجازيها عليه خير الجزاء.

أليس من مصلحة النهضة أن يحسب الناس لها أنها أمنت انتقالا لمرحلة تأسيسية، و تعالت على عواطفها من أجل مصلحة تونس ... تونس الجهات المحرومة و تونس المستقبل.. تونس التنوع وتونس التعايش؟

أليس من مصلحة النهضة أن يذكرها التاريخ بأنها لأجل حقن دماء التونسيين، و إنقاذ البلد من الفوضى، والمحافظة على المكاسب المشرقة للدولة التونسية - التي بنيت خلال عقود و لن يعاد بناؤها إذا خربت لا قدر الله إلا بنفس عدد العقود أو يزيد، لأجل كل ذلك تنازلت و قبلت بالحد الأدنى وهو الحريات التي لن تنتهك وحقوق الانسان التي لن تهدر، ألا تكفينا هذه المكاسب الآن؟ ألا يكفينا الآن هضمها وترسيخها؟

ماذا سنكسب من مواقف ومسالك الاستمساك بالسلطة إذا فقدنا قلوب الناس وعقولهم وسلمنا بلدنا للخراب في وضع يتكالب علينا فيه الأقربون والأبعدون؟ لن يقول الناس أن الأعداء حرمونا، و إنما سيقولون أن المؤتمنون ضيعوا الأمانة، وأن الذين تقدموا للسلطة ليس لهم من قوة يوسف وأمانته ما يجعلهم يركضون لها سراعا، فانقلبت عليهم ندامة وعلينا خسرانا لا قدر الله.

متى يدرك الجميع أن حرمة الدماء والأنفس أكبر عند الله من حرمة الكعبة؟ وأن الله لا يبارك أي عمل أهرقت فيه الدماء وانتهكت فيها الحرمات، وأن عدله سبحانه قضى بالانتصار لها ولو بعد حين.

إنها فرصة تاريخية ومنحة ربانية فلا يجدر إضاعتها والتفريط فيها والاستهانة بالتحديات وما يحاك من هنا وهناك لإجهاض التجربة والعودة إلى المربع الأول مربع الاستبداد والفساد والتبعية.

ألا قد بلغنا .. اللهم فاشهد.

محمد النوري

أحمد عبد النبي

تونس في 15\2\2013