إني لأرى نفوسا قد عاد إليها رشدها، وقلوبا بدأ ينقشع ما ران على قلوبها، وعقولا استعادت حصافتها، وعلينا أن نقابلها بالحلم، وحسن الظن، والتواضع الجم. وأن نقدم لها ما يقابلها من الاعتراف المتابدل بالوقوع في الخطأ، والوقوع المتبادل في سورة الشيطان وأوليائه. وأننا وإياهم أولى بالتصافح والتغافر والتصالح. وأن وطننا واحد، ومصيرنا واحد. وأن الظلم لم يفرق بيننا، وأنما تغذى من تفرقنا وتخاصمنا .
كفى نبشا في ماضي بعضنا البعض، ولنساعد بعضنا بعضا على امتلاك شجاعة النقد الذاتي، ولا نعين الشيطان على بعضنا البعض.
لا أشاطر من يسب الشعب الذي نحن منه، ولا أشاطر الهجوم القاسي على النخبة التي نحن أيضا جزء منها. وما حصل لنا مجتمعا ونخبة، قد حصل من قبل في تونس مرات ومرات، وتلك طبيعة المجتمعات. وهي تمر بما يمر به الانسان من لحظات انتباه وحضور، ولحظات غفلة وذهول. وقد يستحضر دروس الماضي أحيانا فلا يكرر أخطاءه، وقد يذهل عنها في أحيان أخرى فيعيدها وكأنه يمارسها أول مرة. وسنن الحركة والتدافع في المجتمعات ثابتة، فإذا استوفت شروطها وقعت، سواء كان ذلك في خيرها أو في شرها.
وقوانين الثورات أيضا نافذة، لأن سنن التغيير الاجتماعي تقتضيها، والمهم هو القدرة على التفاعل معها بما يجعل تأثيرها محدودا في الزمن، وغير عميق التأثير عند الانتكاسات وعودة الثورات المضادة. والمتأمل بعمق في رد فعل التونسيين على الانقلاب، يلاحظ - بحمد الله - أن في الشعب يقظة وحيوية جعلته يستعصي على الاستسلام. ذلك أن هذه السنوات المعدودات من عمر الانقلاب لم تكن بردا وسلاما عليه، ولا استطاع أن يركع فيها الشعب وقواه رغم ما حصل.
أنا لا أرسل مواعظ ولا أشيع تفاؤلا كاذبا، وإنما أنظر من خلال منظار سنن التغيير الاجتماعي، وأرى أن مجتمعنا لا زال بخير، ونخبنا رغم ما أصابها لم تعدم صمودا وانتباها، أعاد الكثيرين وسيعود بالبقية إلى حضن أشواق الثورة وروحها ... ثورة الحرية والكرامة ...
وللذين يقفون في باب التحذير والنذير والتسلح بسوء الظن أقول على رسلكم ... لم يطالبكم أحد بأن تكونوا حملانا طيعة ولا مركوبات مذللة ... لن تنتهي السياسة بكل ما فيها، ولن تتغير طبيعة التونسي ... ولكن المطلوب هو استيعاب الدرس الأهم: هناك وطن لن يقوم إلا بوحدة أبنائه على قواعد من العيش المشترك، تجمع بين الحد الأدنى الإنساني الذي يجب أن يتمتع به كل تونسي، والحد الأدنى الديمقراطي الذي يجب أن تدار به حياة التونسيين. وفوق ذلك، وعلى قاعدة ذلك، مساحة واسعة جدا للتنافس لما فيه خير تونس والتونسيين كما يتنافس غيرنا في مجتمعاتهم ودولهم.
تاريخ أول نشر 2025/11/26
