search

تونس على أعتاب سنة سياسية حاسمة: التشخيص والاستشراف

تدخل تونس سنة سياسية جديدة في ظل مناخ يطغى عليه منطق الاعتقالات والمحاكمات. منذ أشهر طويلة لم تتوقف موجات الإيقافات التي طالت معارضين ونقابيين وصحفيين وناشطين، حتى غدت جزءًا من المشهد اليومي وأسلوب حكم أكثر منها إجراءات قضائية. القضاء، بدل أن يكون حصنًا للحقوق، تحوّل إلى أداة في معارك السياسة، تُوظَّف أحكامه لردع الأصوات المزعجة وإخماد أي نفس معارض. وآخر حلقاتها كان اعتقال القاضي والمرشح الرئاسي السابق مراد المسعودي في عملية استعراضية كشفت عن منسوب القسوة في إدارة الخلاف. هذه الممارسات، وإن نجحت داخليًا في ضبط الإيقاع السياسي، تعكس خارجيًا صورة عن نظام يضيّق الخناق على الحرية ويزيد من عزلة السلطة، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى كسب ثقة الداخل واحترام الخارج.

الاقتصاد: ضغوط تتزايد على الفئات الهشة

الواقع الاقتصادي هش، ونمو البلاد بالكاد يصل إلى 1.5% مع تضخم مستمر يضغط على القدرة الشرائية للمواطنين. الاعتماد على الضرائب ورفع الأسعار لسد العجز المالي يجعل المواطن البسيط جزءًا من دائرة ضغط مستمرة، حيث يصبح كل نقص في المواد الأساسية أو ارتفاع فاتورة الكهرباء والطعام شرارة محتملة لغضب شعبي. هذا الوضع الاقتصادي يشكل عاملًا إضافيًا في تعزيز التوتر الاجتماعي، ويجعل أي صدام مع النقابات أو الحركات الاحتجاجية أكثر احتمالية، بما يضيف بعدًا حرجًا للمعادلة الأمنية.

المعارضة: تشتت يحد من الفاعلية

المعارضة، رغم اقتناع غالبية أطرافها بضرورة الوحدة والتنسيق، تظل مشتّتة بين حسابات حزبية وشخصية. رأس مالها الحقوقي والنقابي لم يتحول بعد إلى برنامج عملي قادر على مواجهة تحديات اليوم، ما يجعلها في موقع رد الفعل أكثر من المبادرة. ضعف السردية الموحدة يقيد قدرتها على تقديم بدائل واضحة للمواطنين، ويترك فراغًا يستغله النظام لتكريس هيمنته.

الاتحاد العام للشغل: ضعف الدور أمام الضغوط المركّزة

اليوم، الاتحاد العام التونسي للشغل يمر بأضعف مراحل وجوده منذ عقود. السلطة وضعت نصب أعينها تحجيم دوره من خلال استهداف التفرغ النقابي، إلغاء الاقتطاع الآلي للاشتراكات، والإعداد لملفات فساد محتملة. هذه الضغوط تعكس عزماً واضحاً على تقليص تأثير الاتحاد كموازن اجتماعي وسياسي، وجعله أقل قدرة على مبادرة الاحتجاج أو التحرك النقابي الفاعل. في هذا الواقع، لم يعد الاتحاد قادرًا على لعب دور الموازن التقليدي أو التصدي لموجات السياسات الاقتصادية والاجتماعية بالفاعلية السابقة، بل أصبح أكثر تعرضًا للضغط والتلاعب من السلطة.

البعد الإقليمي: تأثير التحولات على تونس

الإقليم المحيط بتونس مليء بالتحديات: ليبيا تراوح بين المراوحة السياسية والانتخابات الجزئية، المغرب والجزائر في لعبة شد وجذب مستمرة، والقضية الفلسطينية تعيد رسم المواقف الرمزية والسياسية للشارع المغاربي. ضعف تونس الداخلي يجعلها معرضة لتأثيرات خارجية، سواء عبر ضغوط اقتصادية أو سياسية، ويزيد من الحاجة إلى استراتيجية توازن دقيقة تحمي مصالحها دون الانخراط في صراعات إضافية.

استشراف المستقبل: السيناريوهات الممكنة

1. استمرار الضبط الأمني مع متنفسات صغيرة

ضعف الاتحاد والمعارضة المشتتة يمنحان السلطة قدرة أكبر على فرض قبضتها بدون مواجهة كبيرة. الإفراجات الانتقائية أو بعض التنازلات الرمزية قد تستخدم كوسائل امتصاص الضغط دون فتح أفق سياسي حقيقي.

2. تهدئة محدودة بفعل ضغوط مالية أو إقليمية

الحاجة إلى دعم خارجي أو التهدئة الاقتصادية قد تدفع السلطة إلى فتح حوار محدود مع الاتحاد أو فاعلين اجتماعيين آخرين، لكن الدور الذي يمكن أن يلعبه الاتحاد سيكون محدودًا بسبب الضغوط والإجراءات الداخلية، ما يجعل التهدئة تكتيكية ومؤقتة أكثر منها استراتيجية شاملة

3. صدمة اجتماعية أو نقابية تعيد ترتيب المشهد

أي أزمة اقتصادية حادة أو احتجاجات قطاعية محددة قد تُحوّل المشهد، وتفرض على السلطة مراجعة تكتيكاتها. رغم ضعف الاتحاد، فإن شرارة الاحتجاج قد تأتي من مجموعات اجتماعية أخرى أو قطاعات متضررة، ما يخلق ضغطًا يفرض التغيير.

السنة المقبلة على الأرجح ستُدار بالأمن لا بالسياسة، مع تزايد الكلفة الاقتصادية والاجتماعية. تونس اليوم دولة تمسك العصا الأمنيّة، ومعارضة تمسك الميكروفون من دون جمهور، والمجتمع يغلي تحت الرماد. أي تحرك اجتماعي أو نقابي محتمل، حتى ولو لم يقوده الاتحاد، قد يفرض على السلطة إعادة تقييم سياساتها، لكن قدرتها على ضبط المشهد تبقى عالية طالما بقي الاتحاد ضعيفًا والمعارضة مشتتة.

تاريخ أول نشر 2025/8/17