search

لا تظلموا الشعب ولا تقسوا على النخبة

أرجو أن لا أسيئ لأحد في ما سأكتبه ... وإذا جنح بي التعبير فاغفروا لي فإنني لا أقصد إيذاء أحد ... أحترم كل صاحب رأي مخالف ... أفهم المتشائمين الذين لا تنفك سياطهم عن الجلد فوق ظهور الشعب والنخب ... وأعرف أنهم يرون من زاوية مليئة بما يعزز تشاؤمهم ويزيد من غضبهم ويضاعف من يأسهم ... لست ضد التفكيك والهدم والتجريف بالمطلق ... وأعرف أنه لازم بمعنى من المعاني ...

لكن اسمحوا لي يا سادة ... ليست الصورة زاوية واحدة ولا الورقة صفحة واحدة ... وليس مجتمعنا ولد اليوم ... ولا التونسي صنع على أيامنا ...

الناظر في التاريخ الطويل لمجتمعنا لن يرى انقلابات فينا ... إنما يرى دورات تطول وتقصر ... يبدو فيها أحيانا وجه التألق والعمل والإنجاز ... ويبدو فيها أحيانا وجه الكسل والتخلف والعطالة ... تبرز فيه أحيانا أوجه التعايش والتآلف والتناصر ... ويبرز فيه أحيان وجه الشقاق والتناحر والفتن ... وفي كثير من الأحيان تكون الأوجه جميعها موجودة بأقدار يعلو بعضها على بعض فيصبغ الوجه الغالب الوجه المغلوب فيخيل إلينا أنه اختفى .... وأحيانا تتخلق الأوجه بعضها من بعض فيدب الفساد في المجتمع السليم وتتسع رقعته ... وبالعكس يتمدد الصلاح كالصبح مخترقا سجف الليل البهيم ... تلك طبيعة الحياة وطبيعة المجتمعات ...

يا سادة نحن نحمل صبغيات الانسان الذي خلقه الله بكل صفات الضعف التي عددها الله في قرآنه ... مع صفات الاستخلاف والتكريم وكل الصفات المحمودة التي ذكرها الله في قرآنه ... الحمد لله لسنا يهودا صبت عليهم اللعنة ....

أحيانا تقرأ لأحدهم وكأن التونسي كتب عليه في صبغياته أنه ضال مضل وجاهل جهول وفاسد مفسد ... هكذا - ربما من دون أن يشعر - يرى شعبه الذي هو منه وتخلقت شخصيته في رحمه ... وهكذا يرى نخبته التي هو أحد أفرادها ....

أعرف أن الكلام لا يحمل معنى التعميم، ولكنه للاسف من كثرة التركيز يجعل الإيجابي في حكم الاستثناء ... وحتى لو كان أكثر من ذلك، فإن سياط الكلام المتكرر صباحا مساء، يورث بالضرورة وقعا نفسيا لا يحمل إلا على نفض اليد من الجميع ....

أرفض كل هجاء وتقريع للشعب، وتحميله مسؤولية ما حصل، والتوجه إليه باللائمة على قبوله بالانقلاب ... ليس في ما يقوم به شعبنا من ردود أفعال بدعا من السلوك ... تلك طبيعة الشعوب ... وهو طبع لا يدل لا على جهل ولا على عدم مسؤولية ... وإنما يدل على وعي وتقدير وحتى براجماتية ... ما ذنب الشعب الذي اتبع نخبته التي اختارت قيس سعيد وانطلت حيلته عليها ... الشعب سمع نخبته وسراته ... فإذا أضاعوا البوصلة بكل أسباب الضياع فهل عليه أن يبقى يهيم معهم جنوبا وشمالا ؟؟؟

الشعوب واعية وحية الضمير ولا تختار إلا المصلحة عندما تقدم لها فرصة الاختيار واضحة بدون تدليس أو دخن أو تلاعب ... وغالبا ما يكون اختيارها حكيما ... ولكنها أيضا قد تسقط في الخداع والتلاعب الذي تمارسه النخبة أو بعض أجنحتها المتنفذة ....

لكن الشعوب يحركها الصدق والتضحية والفعالية ... لا تتخل الشعوب على من جمع هذه المواصفات الثلاث وجماعها الإرادة بكل ما تحمله الإرادة من معنى .... وهي الصفة التي حتى الله سبحانه يستجيب لمن امتلكها حتى ولو للإفساد ... وفي الآيات: من أراد ... فله ...

وفي التاريخ الماضي والحاضر وجدت أمثلة كثيرة لاستجابة الشعوب لنداء التغيير وخذلتها النخبة ... إما بتناحرها أو بعدم قدرتها على إدارة الصراع او بوقوعها ضحية التلاعب في أحضان الطامعين ....

والنخبة أيضا ليست شرا محضا ولا عجزا محضا ... في نخبتنا خير كثير ، وليس هناك أمل في مستقبل لا يتخلق من رحمها ... صحيح أنه في داخل النخبة صراع إيديولوجي دام لا زالت ناره مستعرة ... ولكنه ليس وضعا ثابتا ... هناك تحولات بطيئة ولكنها ثابتة ... وتحولها البطيئ هو الشرط الموضوعي الثقافي النفسي للتحول وهو أشبه بالقانون الاجتماعي ...

من ينظر بعين الفاحص الدقيق سيتأكد أن هناك تحولا نحو منطقة التسويات التاريخية ... المنطقة الوسط ... التي يسعى فيها كل فريق إلى التخلي ليس عن اختلافات جوهرية مع الفريق الآخر، ولكنه التخلي عن الاختلافات المعيقة لإجراء التسويات الضرورية لبناء التوافق الوطني وبناء مجتمع ودولة المواطنة والديمقراطية.

ليس للتونسيين طريق آخر غير ذلك ... تونس لن يحكمها تيار ولا فصيل واحد إلا بالحديد والنار ... ومن حكم بالحديد والنار لن يعمر ... لن يعمر تونس ولن يعمر فيها ...

تاريخ أول نشر 2025/4/18