أخيرا ظهر المشيشي صوتا وصورة. أول استنتاج بالنسبة لي هو فشلنا الدائم في التعرف على الناس وسيطرة الصور الذهنية "المفبركة " عنها. والتي غالبا ما تكون حائلا بيننا وبين التعرف الدقيق والعميق عليها. تصوروا أنني لأول مرة أعرف المسار العلمي الأكاديمي المحترم جدا والمميز جدا للمشيشي في مجال تخصصه، وأيضا مساره المهني الذي لا يقل عن مساره العلمي. وعندما يقول أنه ابن الدولة فهو فعلا ابن الدولة وفي أكثر مجالاتها حساسية ومهنية وهي المراقبة والتفقد، إلى جانب مهام أخرى لا تقل أهمية كإدارته لدواوين وزارات، إضافة لعضويته في لجنة تقصي الفساد التي ترأسها المرحوم عبد الفتاح عمر. ولو نقوم بمقارنة بسيطة بينه وبين بعض الوزراء الذين تقلدوا مناصب في حكومات الانتقال الديمقراطي فستجد بينه وبينهم بون بائن. فاجأني المشيشي أيضا بطلاقة لسانه، وقدرته على التعبير عن أفكاره، وأحيانا بكل العمق المطلوب. تصوروا أنني عندما قرأت له النص الذي نشره قبل أشهر، اعتقدت للوهلة الأولى أنه كتبه مستعينا بالذكاء الإصطناعي ... يا لسخافتنا !
للأسف هو نفس الموقف الذي تعاملنا به مع قيس سعيد، ولكن في الاتجاه المعاكس. فقد اكتشفنا بعد ما اصطدمنا به، أنه مدرس "مساعد" رغم أنه قضى في الجامعة 30 سنة، لم ينشر كتابا واحدا، ولا بحوثا في مجلات محكمة. بعد تسلمه للحكم اكتشفنا عربيته الركيكة ومخزونها اللغوي والأسلوبي ما قبل الجامعة، وكنا قبل ذلك كأنما في آذاننا وقر. اكتشفنا اهتزازه النفسي واضطرابه العصبي وخبثه ومخاتلته وكل أمراضه.
لم يظهر المشيشي حملا وديعا أو "رجل قش" كما قالت عنه صاحبة السفير الفرنسي، وإن اعترف بـ"سذاجته ونيته الطيبة"، رغم نذر الانقلاب التي كانت تأتيه من خلال تقارير الأجهزة، ومن خلال تعامله المباشر مع الرئيس.
ورغم أن الصدام المبكر بينه وبين قيس سعيد، كان يمكن أن يعطي لنا مؤشرا عن فهم شخصيته إلا أن الصورة النمطية التي ركبت حوله كانت غالبة.
لا شك أن الطابع التكنوقراطي الذي حكم تجربته في الدوله، قد أثر على سلوكه وهو يتقلد مناصب سياسية كوزير داخلية ورئيس حكومة، فحافظ على طابع التحفظ في انفتاحه على الفضاء العام، وطبعا عدم انضمامه لعالم السياسة أفقده مواصفات ضرورية ولازمة خاصة لوظيفة رئيس حكومة في دستور 2014.
لقد بدا المشيشي رابط الجأش واثقا من نفسه ويتكلم بخلفية رجل الدولة المتشبع بالأصول القانونية والإدارية.
كان توصيفه لما حصل يوم 25 جويلية مستندا لقواعد الدستور والقانون، لذلك لم يتلكأ في اعتباره انقلابا.
أشك أن المشيشي قال كل ما عنده، ولكن ما قاله هو زبدة الكلام.
ذكر ما اعتبره جرائم قام بها قيس سعيد إلى جانب جريمة الانقلاب. اختلاقه لمؤامرات اغتياله، وتدخله الفج والسافر في القضاء، وتدخله الفاضح لتعيين أناس بدون كفاءة ضمن التشكيلة الحكومية، وأهم تلك الجرائم مساهمته الفاعلة في الإدارة السيئة لمواجهة جائحة كورونا وخاصة إخفاؤه المتعمد للتلاقيح الذي تسبب في وفاة الآلاف من التونسيين.
كما قدم لنا صورة دقيقة لشخصية سعيد، الذي يعتبر نفسه مبعوث العناية الإلاهية، وسعيد الذي يعتبر الناس فاسدين بالضرورة، وسعيد الذي لا يستمع لأحد، وسعيد الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وسعيد الذي يشرف بنفسه على بث الإشاعات، وسعيد الذي شوه صورة تونس مع الدول الشقيقة والصديقة.
صحيح أن جل ما ذكره معروف لدينا، ولكن المهم في كلامه أنه يصدر عن رئيس حكومة، كان معايشا لتلك الوقائع ويعضها وخاصة الجرائم الكبرى موثق لديه.
تحدث المشيشي عن ليلة الانقلاب وما حصل معه، وقد يكون تجنب ذكر بعض التفاصيل، لكنني أميل إلى تصديق روايته. أميل أيضا إلى تصديق تفسيره لرد فعله ليلة الانقلاب وبعدها، حيث استولى عليه خوف الدخول في استعمال السلاح وارتكاب مجازر، خاصة أمام هيجان قيس سعيد وتهديده بذلك.
باستثناء حديثه عن "سذاجته" لم يقدم المشيشي نقدا ذاتيا آخر، واعتبر أن عدم انتباهه إلى ما يدبر كان نتيجة اعتقاده أن الدولة وأجهزتها قد قطعت أشواطا بحيث لا يتوقع أن تسقط في انقلاب، وهو نفس التوقع الذي كان عند الأحزاب الرئيسية التي كانت تسانده.
ورغم أنه حرص في خطابه أن يثني على مؤسسات الدولة الصلبة خاصة الداخلية، إلا أنه في مناسبتين وجه نقدا للمؤسسة العسكرية، وقال أنها حادت عن مهمتها، ولولاها ولولا الأجهزة الأمنية اللتين افتكهما قيس، ما استطاع أن ينجز انقلابه.
قرار المشيشي بالخروج من واجب التحفظ يمكن أن تكون له أبعاد أو خلفيات لم تظهر بعد، لكنه في كل الحالات يأتي في مرحلة اعترف فيها قيس نفسه بفشله، وتعرى زيف وعوده أمام الشعب.
هل يمكن أن تستثمر المعارضة ظهور المشيشي وتنخرط في مبادرة تستهدف إسقاط الانقلاب؟ هل يمكن اعتبارها فرصة لتحريك الساحة والخروج من حالة العطالة والانكفاء على النضال الحقوقي فقط؟ خاصة وأن المشيشي قد ظهر بخطاب داعم لكل المساجين ولم ينخرط في أي هجوم على غير قيس سعيد.
لننتظر ونرى
تاريخ أول نشر 2025/9/30