مرحبا أهلا وسهلا بكم في هذا المنتدى الذي تشرف عليه أكاديمية ريادة.
طلب مني تقديم مداخلة حول حركة النهضة وتجربة الحكم في سنتي 2012 و2013: حصائل ودروس.
وأود أن أوضح أن حديثنا يتعلق بسنتي 2012 و2013 وليس بالعشرية كما يقال. نتحدث عن أشياء ربما بعضها لا يزال فاعلا ولكن لها قرابة 10 سنوات.
وعندما نقول حركة النهضة والحكم سنحاول الإجابة على ثلاثة أسئلة:
1- كيف أدارت النهضة الحكومة؟
2- كيف ساهمت النهضة في عمل البرلمان؟
3- وأخيرا كيف أدارت حركة النهضة بمؤسساتها المركزية والجهوبة والمحلية ومنخرطيها تجربة الحكم وكيف تعاملت مع التحديات التي فرضتها تلك المرحلة؟
1- كيف جاءت النهضة للحكم وهل قررت هي الدخول في الحكم أم أن دخولها إلى الحكم كان صدفة؟
في 2011 قررت النهضة، بعد نقاش مستفيض في الهيئة التأسيسية التي سيعوضها مجلس الشورى لحركة النهضة بعد مؤتمرها سنة 2012، الدخول بقوة في الانتخابات، وبالتالي أن تدفع بعدد كبير من أفضل عناصرها في الانتخابات التأسيسية وأن تدفع بهم للدولة. وأكدت فى هذا الخيار على أهمية اعتماد الكفاءة والإشعاع في اختيار عناصرها في القائمات الانتخابية. كان واضحا لحركة النهضة في ذلك الوقت أنها لا تملك شروط الأخذ بزمام الأمور في البلاد. فهى قادمة من الخارج وخارجة من محنة طويلة في الداخل والخارج. وقد اجتمع شملها للتو في 2011 ولكنها لا تملك كل شروط الأخذ بزمام الأمور. لكنها أيضا لم تر أي قوة أخرى قادرة على أن تؤمن الديمقراطية إذا هي تخلت ولم تتقدم ولم تتصد لهذه العملية.
هذا هو الإشكال الذي نوقش كثيرا؟:
هل ندخل بقوة وبأكبر عدد، أي بخلفية أننا سنشارك في السلطة وربما نقودها إذا رشحتنا الانتخابات؟
أم ندخل بعدد محدود وربما بصفوف ثالثة أو رابعة باعتبارنا لا نريد أن نرشح أنفسنا لمهمة التصدي للحكم في تلك المرحلة لأننا لم نكن مهيئين لذلك بالقدر الكافي؟
قررنا بعد النقاش الدخول بقوة والدفع بأفضل عناصرنا في هذه العملية لأن الحركة رأت فراغا في الساحة السياسية لا يوجد من يملؤه إلا من يمكن أن يغامر باستعادة النظام القديم أو بسحق الحرية والديمقراطية التي أوجدتها الثورة.
ولذلك لم نر في ذلك الوقت قوة أخرى قادرة على أن تأخذ بزمام الأمور وكان الخوف من انتصار اليسار المتطرف أو أنصار النظام القديم يمثل مشكلة كبيره بالنسبة إلينا وللبلاد. وتقديرنا اليوم وطوال السنوات التي مرت أن ذلك القرار كان صائبا رغم كل التحديات التي طرأت علينا بعد ذلك. لآن المغامرة الأولى كانت يمكن أن تكلف البلاد العودة بسرعة الى الاستبداد مثلما حصل في بلدان شقيقة أخرى حيث أن الديمقراطية لم تدم إلا سنة وأحيانا أقل من سنة.
بعد فرار الطاغية كانت النهضة الخارجة من محنة طويلة تتصدى لمهمتين كبيرتين في نفس الوقت: مهمة إعادة البناء، بناء النهضة وترتيب بيتها الداخلي اعتمادا على جهود النهضة في الخارج والداخل، والمهمة الثانية كانت مهمة العمل السياسي للتعريف بالحزب واتخاذ المواقف الضرورية من القضايا والأحداث الكبيرة سنة 2011 مثل القصبة 2 و1، وهيئه بن عاشور، والميثاق بين الأحزاب والمسيرات والدفاع عن الثورة... والنهضة كانت تعيش ضغطا كبيرا لأنها كان مطلوبا منها أن تبني نفسها وفي نفس الوقت تتصدى للتحديات .
كانت نتائج الانتخابات التأسيسية في 23 أكتوبر 2011 تقريبا مبنيه على معاقبة العهد السابق، وعلى الأمل في النظام الجديد، ولم تكن مبنية على البرامج، والبرامج التي طرحت كانت أقرب إلى الشعارات العامة منها إلى البرامج الواقعية. الشعب عاقب النظام السابق وانتصر للجديد بصفة عامة ولذلك الذين انتصروا كانوا هم المعارضة الحقيقية أو من المعارضة الحقيقية لبن علي، فكانت الأحزاب الثلاثة الكبرى هي النهضة والمؤتمر وحزب التكتل الذين كانوا في هيئه 18 أكتوبر.
الأطراف المعارضة لحكم بن علي كانت ملاحقة قبل الثورة وكان عملها سياسيا بالأساس، ولم تكن لها الإمكانيات للعناية بطرح القضايا الاقتصادية والاجتماعية ولا كانت لها المعطيات والخبرات لتقوم بذلك. ولذلك كانت خبرتها في العمل السياسي والحقوقي والنضالي بصفة عامة وليست في إدارة شؤون الحكم أو في الإلمام بالمشاكل الاقتصادية والمالية وإلى حد ما الاجتماعية. وفي الحملات الانتخابية وضعنا برنامجا خماسيا وليس لمرحلة انتقالية كانت مبرمجة أوليا بعام واحد. كانت هذه الحملة الانتخابية مليئة بالوعود التي ستصطدم بعد ذلك بالواقع الصعب لأن الإمكانيات المالية وقدرة الاقتصاد الوطني على الإنجاز (إنجاز الاستثمارات) والعراقيل الإدارية والفوضى والانفلات سيجعل كثيرا من الطموحات التي يعبر عنها الشعب والشعارات التي عبرت عنها الأطراف السياسية في حملاتها الانتخابية غير قابلة للتحقق. في كل الأحوال كانت المطلبية والطموحات أعلى بكثير مما يسمح به الواقع في تلك المرحلة أي في خريف 2011.
2- تشكيل الحكومة
كانت نتائج الانتخابات لصالح حركة النهضة وحزب المؤتمر والتكتل من أجل العمل والحريات، وكان علينا التصدي لتشكيل الحكومة، وقررنا تشكيل حكومة وحده وطنيه، ودعونا الاحزاب للتشاور وإن كان ليس كلها. في غمرة تلك الانتصارات والهزائم لأخرين لم نع إلى حد ما ولم يع غيرنا أننا في طور تأسيسي ولمرحلة قصيرة، بما يعني ألا ننظر للوضع كما لو كنا في ديمقراطية عريقة راسخة فيها حكم ومعارضه بألياتها المعروفة، وإنما نحن في مرحلة قصيرة تحتاج إلى تفكير وقدرة على التأسيس وقدرة على إيجاد التسويات، فحالما خرجت النتائج، الصورة التي حصلت هي كما لو أن الانتخابات في نظام ديمقراطي لمده خمس أو أربع سنين، وبالتالي هناك نظام وحكم ومعارضة وليس مرحلة تأسيس لمدة عام مطالبة بالبحث عن التوافقات الدستورية وغيرها. ولم تع الأطراف الخاسرة كذلك فأعلنت بسرعة اتخاذها موقع المعارضة الشرسة وحملت المسؤولية للنهضة ومن معها، وتشكلت الحكومة بين الثلاثي، وعملت النهضة على توسيع الحكم لكن هذا الجهد فشل، ونقدر أننا لم نبذل الجهد الكافي لتشكيل حكومة أوسع من التي تشكلت. لم تكن هناك ضمانة لإضافة أطراف أخرى. لكن بعد أن نظرنا في الجهود بعد سنوات، قدرنا أننا لم نبذل الجهد الكافي لتوسيع الحكومة لتكون حكومة وحدة وطنية مجمعة بصفة أوسع من الثلاثي المشكل لها ولا توزيع الوزارات، رغم حضور الكثير من الواقعية في النخبة القيادية للنهضة. فاتجه الوضع إلى تشكيل حكومة ومعارضة. وكان واضحا أن النهضة تريد قيادة كاملة ولذلك أخذت الوزارة الأولى في نظام أقرب إلى البرلمان الحقيقي كما سنراه في الدستور الصغير، فأخذت وزارة الخارجية والداخلية والحكم المحلي ولم تترك إلا وزاره الدفاع من وزارات السيادة وفي العرف وزارة المالية ليست وزارة سيادية. وزارات السيادة هي العدل، الدفاع، الداخلية والخارجية والوزارة الاولى وهي التي تقود البلاد. والنهضة لم تترك إلا وزارة الدفاع. ولم تكن هناك حلول لإلزام الأطراف الأخرى بالمشاركة، وكانت النهضة متخوفة من الرجوع إلى النظام السابق. لذلك تقدمت بأفضل عناصرها محاولة الحصول على الوزارات الأساسية لتقطع الطريق على أي انتكاسة، ولم نصل بعد إلى نقطة اللاعودة، وكان دائما هناك خوف من إمكانية الانتكاس لسبب أو لآخر.
3- النهضة تتسلم الحكم مع حزب المؤتمر وحزب التكتل :
3-1 عندما تسلمنا الحكم فى 23 ديسمبر 2011 كن الوضع يتسم بما يلي:
اجتماعيا: هناك حماس للثورة وانتصار لها، مع وجود اعتصامات وقطع طرق واحتلال لعدد من مقرات الولايات وبعض المعتمديات. وجود عدة مسيرات في الليل والنهار في أماكن كثيرة. كما كانت المطلبية كبيرة من قبل فئات تريد تسوية وضعياتها بسبب التشغيل ورغبة البعض في تسوية وضعيته من الذين تأخرت ترقياتهم أو من أصحاب العفو التشريعي العام مع زيادات مثل التي أقرها المرحوم الباجي قائد السبسي (70 دينارا) والمقررة في الأصل للوزارة الاولى ولكن تعممت لاحقا على جميع الوظيفة العمومية، ومشاكل التنمية الجهوية والماء والكهرباء الى آخره.
هذا على المستوى الاجتماعي حيث كان هناك أمل كبير ومساندة كبيرة للثورة، وطموحات كبيرة.
اقتصاديا: كان هناك انهيار بسبب هروب عدد من المستثمرين وغلق عدد لا بأس به من المؤسسات وتوقف الإنتاج وبالتالي زادت البطالة حتى وصلت الى 19% عام 2011 لذلك كان النمو سالبا بـ 2.
أمنيا: كان هناك ضعف في المؤسسة الأمنية لأنها فقدت جزء من مقراتا وممتلكاتها بالحرق والنهب، ولا زالت صورتها مشوشة أمام الرأي العام الوطني الذي حملها جزءا كبيرا من مسؤولية فظاعات النظام السابق. وكانت مطالبة بإعادة بناء ذاتها بعد الذي حصل حتى من الناحية المعنوية. كانت مرتجه أو محتاجة إلى شيء من الوقت خلال 2011 والى 2012 حتى تعود هذه المؤسسة وتعود إداراتها ومقراتها ووسائلها ووقفتها في مهامها بمساعدة من الجيش الوطني في عدد من المجالات.
دوليا: كان هناك تفهم للثورة وإعجاب بالشعب التونسي وهناك تعبير عن الاستعداد للدعم من عدد لا بأس به من الدول، مقابل التربص بالتجربة التونسية ومحاولة إفشالها من عدد آخر من الدول.
3-2 حققت النهضة نتائج مهمه في الجانب الاجتماعي وهو من أهم مطالب الثورة من ذلك:
- إدماج أغلب الموجودين في التشغيل الهش وذلك عبر الكثير من الآليات التي كانت معتمدة مثل المناولة وغيرها بما يمكنهم من جرايات محترمة والتغطية الاجتماعية بين الأسبوع الأخير من 2011 ونهاية جانفي 2014.
- تسوية عدد من المظالم ومنها المتمتعين بالعفو التشريعي العام بتمكينهم من شغل أو عودة للشغل وتغطية اجتماعية لجزء لا بأس به منهم، وتدارك عدد من المظالم السابقة. في كل قطاع وكل وزارة وكل مجال كان هناك مظلومون، إذ كان يوجد مثلا أشخاص مجمدون لمدة 15 سنة دون ترقية.
- زيادة عدد العائلات المتمتعة بالمساعدة بحوالي 50000 عائلة جديدة وزيادة جرايتها بقرابة 50 دينار .
- تسهيل عمليات الربط بالماء الصالح للشراب وإن كانت تنقصنا الأرقام للتدليل على ذلك. لكن الأكيد أن ذلك تم بدرجة لم تحصل قبل ذلك. وأحد النواب في المجلس التأسيسي قال إنه في ولايته التي يمثلها وبعد عملية إحصاء تأكد له أن ما أنجز في سنتين من حكم الترويكا تجاوز ما أنجز طيلة العشرية التي سبقت الثورة.
- مد الطرق والمسالك الريفية بشكل لم يحدث من قبل وهناك طرقات تم تعبيدها بما في ذلك الطرقات السيارة .
- البدء في بناء مساكن اجتماعية وبرمجنا 80,000 وبدا توزيعها في 2013 واستمر البرنامج بعد ذلك.
- - تطوير الأجور وتخفيض البطالة من 18% في 2011/2010إلى 15.3% في 2013، بمعدل لا يقل عن 80000 موطن شغل سنويا.
- حققنا نسبة نمو فاقت 4% سنة 2012 و2.6 في 2013 بمعدل أكثر من 3% بين عامي 2012 و2013. بينما كانت نسبة النمو سنة 2009 و2010 فى حدود 3%.
- برنامج التنمية الجهوية: تم تطوير الاعتمادات الخاصة بها أكثر من خمس مرات خاصة في الولايات الداخلية عن الفترات السابقة مع تمييز المناطق الداخلية.
- كما انطلقت الحكومة في إصلاح الاقتصاد رغم نقص الخبرة وذلك من خلال إصلاح جبائي أردنا منه الأهداف الثلاثة التالية: العدالة الجبائية؛ توحيد النصوص الجبائية، توسيع الجباية.
ü فالجباية لم تكن موزعة بصفة عادلة. لذلك عملنا على العدل في توزيعها، حسب الدخل من خلال عتبات (Pallier).
ü توحيد النصوص الجبائية بتوسيعها لوجود مناشط معفاة أو جزافية والحال أن دخلها مرتفع فالتقدير لم يكن مناسبا وكان دون الدخل الحقيقي. كان المطلوب التخفيض في الجباية مع توسيعها وتوحيد النصوص. عام 2013 توصلنا إلى بداية تجديد النصوص الجبائية. لكن العمل كان جديا وضخما حيث كان لا بد من الجلوس مع مختلف المتدخلين (الاتحادات، الخبراء المحاسبين،...) ثم عرضه على المجلس الوطني للجباية لاتخاذ القرار.
- مراجعة مجلة الاستثمار: راجعنا بعض القوانين المحدودة. لكن كان لا بد من مراجعة المجلة كاملة. وصادقنا عليها في 2015 أو 2016 وبدأ العمل بها. والآن تتم مراجعتها .
- بعث مناطق صناعية في أغلب الولايات.
- محدودية ارتفاع نسبة المديونية بأربع نقاط فحسب من 40% إلى 44 في 2014. وبعدها ستزيد بنسب أسرع.
- الانطلاق في مناقشة اتفاقية التجارة المعمقة مع الاتحاد الأوروبي وتوقفت في 2016 لأن الاقتصاد لم يكن يتطور بما يكفي لمواجهة المنافسة.
- العمل على تنويع التصديرسلعا واتجاهات بدل التركيز على أوروبا وخاصة الغربية وهو ما يضيق على السيادة الوطنية لارتهانها إلى الأطراف التي تحتكر تجارتنا.
- معالجة جزء من الدعم: في بعض المصانع وجدنا أن ما يربحه المصنع هو بالضبط ما يأخذه دعما من الدولة، بما يعنى أنه لا يضيف شيئا. فقلنا هذا لا يجب أن يستمر. لذلك عملنا على ترشيد الدعم وليس إلغائه، فيذهب إلى من يستحقه في الأصل. وجدنا أن أصحاب الثروة هم من يأخذون أكثر دعما باعتبار أنهم يستهلكون أكثر ويربحون أكثر بينما الفقراء يحصلون على دعم قليل بحكم استهلاكم الضعيف.
- مراجعة الوظيفة العمومية من جهة ارتفاع كتلة الاجور خاصة بمقتضى الترسيم في مختلف القطاعات مثل التعليم، وهناك مشكل الكفاءات الكبرى التي تكتسب خبرتها في الوظيفة العمومية ثم تنتقل الى القطاع الخاص نظرا لفوارق الأجور. المغرب مثلا يعمل على استجلاب خبراته من الخارج ووضعها على رأس المؤسسات الكبرى مع إعطائها أجورا مرتفعة. ولابد من وجود طريق لتصور أجور غير طاردة من الوظيفة العمومية. حتى في الجامعة، وقس على ذلك المهندسون والأطباء، وغيرهم الذين يعملون في القطاع الخاص أجورهم أرفع مما هو عليه الوضع في القطاع العام.
3-3 على المستوى السياسي:
تحقق الدستور واحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان والقضاء على التعذيب إلى حد ما وإرساء لجان لتحقيق العدالة الانتقالية من خلال مسار هيئة الحقيقة والكرامة والتصدي للإرهاب وإفشال محاولات الانقلاب على الدولة والثورة، وقمنا بإصلاحات معتبرة في سلك القضاء والامن.
4-3- وفي إطار مقاومة الفساد :
وقع استرداد عدد من الاراضي والعقارات (بناءات وعمارات) واحالة عدة قضايا فاق عددها الألف (أعتقد أنها 1200 حتى 2013) إلى القضاء واستعادة أموال 25 مليون دولار ويخت من إسبانيا ومصادرة ما حدده مرسوم المصادرة ولم نستغل قضايا الفساد للتشهير بالناس.
4- كيف تعاملت النهضة مع الازمات؟
ما أن أسفرت الانتخابات عن نتائجها حتى أعلنت أطراف عديدة حسرتها واتهمت الشعب بالخطأ في التصويت وصممت على إفشال النهضة، مضاعفة من مظاهر الانفلات والفوضى ومن الحملات الإعلامية المغرضة ومن التحالفات القائمة أساسا على إفشال الحكومة لا على معارضتها، واستغلت كل هذه الأطراف كل حادثة أو خطإ لمزيد التلاعب وتوجيه الضربات للحكومة وحتى للديمقراطية والثورة. يندرج في هذا ما قام به أيضا اتحاد الشغل أحيانا والذي تحول إلى المعارضة وقيادتها بما يشبه الجبهة لمعارضة الحكومة والضغط عليا بالمطالب المشطة و35,000 إضراب فضلا عن إضرابين عامين، ويندرج فيها أيضا محاولة اليسار المتطرف السيطرة على مقرات الولايات بالقوة لكنه فشل، ويندرج فيها تشكيل جبهة الإنقاذ التي جمعت كل من هو ضد النهضة في محاولة لإسقاط الحكومة والتصميم على إسقاط المنظومة التي أفرزتها انتخابات 23 أكتوبر 2011. وهو ما ظهر خاصة في صيف 2013 والهدف كان إسقاط منظومة 23 أكتوبر بمجلسها التأسيسي وحكومتها ورئيس الدولة في ذلك الوقت وكل ما أنتج من قوانين والهدف العودة الى يوم 14 جانفى.
كما انخرط في هذا الاتجاه جزء كبير من وسائل الإعلام وغلاة التجمعيين حيثما كانوا، وتوظيف الاغتيالات والجرائم التي قام بها أنصار الشريعة والخوف الذي بثوه في الشارع التونسي.
في أواخر 2012 وكامل 2013، كانت الصورة تبدو كما يلي وبصورة متصاعدة: النهضة كملاكم، يواجه في الحلبة عددا كبيرا من الملاكمين في نفس الوقت، ولا يكاد يحقق الدفاع عن نفسه، ولا يجد فرصة للهجوم لأنه منهك بالتصدي للملاكمين المهاجمين من كل الاتجاهات. وزاد من ذلك التآمر الخارجي ومحاولات اختراق المؤسسات والأحزاب ومؤامرات أطراف تونسية في توظيف النقابات الأمنية.
تمسكت النهضة أمام ذلك بالشرعية، ومعها الائتلاف الحاكم رغم التباين، التمسك بالشرعية ووحدة الحكومة، وحتى في البرلمان بدأ الثلاثي الحاكم في نوع من التفكك ولم تعد وحدته متماسكة. فحدث اختلاف بين التكتل من ناحية، والنهضة والمؤتمر من الناحية الأخرى، وأحيانا أخرى مع حزب المؤتمر، وقس على ذلك في الحكومة. لكن بصفة عامة كانوا لا يزالون يمثلون وحدة في الحكومة وداعمين للشرعية.
تمسكت النهضة بالقوانين والشرعية وساندها المؤتمر والى حد ما حزب التكتل. وساندها أيضا عدد من الأحزاب التي كانت على صلة وثيقة بالنهضة لدعم الشرعية مقابل الجبهة التي كانت تعمل على إسقاط الحكومة ولو بإسقاط الدولة.
انتبهت حركة النهضة إلى ما أحدثه انقلاب مصر من زخم في الأطراف المناوئة من أجل إسقاط التجربة. وجاء لقاء باريس في 15 اوت 2013 بين الشيخ راشد والمرحوم الباجي ليدفع نحو الحوار بدل الصدام والعناد والمكابرة وجاء أيضا تجمع 23 أوت 2013 بالقصبة، أكبر تجمع في تاريخ البلاد. كان واضحا في رسائله التي مفادها أنه باعتماد الشارع، فإن النهضة أقدر وأوسع شارعا، وهي رسالة للداخل والخارج وكان ذلك ردا على اعتصام باردو.
وساعد ذلك على الدفع نحو شيء من الواقعية وعلى التخفيف من حدة ما كانوا يراهنون عليه من إسقاط الدولة والثورة والنهضة وتصفيتها. فجاء أيضا إمضاء الشيخ على خريطة الحوار في 25 أكتوبر 2013. وهو حوار كان أصحابه أو جزء من أصحابه يريدون به نسف منظومة 23أكتوبر. ولكن النهضة في تقديرنا أحسنت إدارته بين هياكل الحركة ومجلس المستشارين حيث يدار الحوار وبقيته في مجلس نواب الشعب، والى حد ما في الحكومة.
وأمكن للحركة أن تحسن إدارة الحوار. فتراجع الكثيرون عن فكرة إسقاط النهضة والثورة إلى أشياء أخرى رأيتموها بعد ذلك وكان أهم عناوينها تلازم المسارات بدل العودة إلى 14 جانفي: يجب أن تتقدم البلاد فيكون لها دستور وهيئة انتخابات وموعد انتخابات وحكومة انتخابات والعدالة الانتقالية.
5- دروس وعير
المسار الذي دام سنتين (2012 و2013) وليس عشرية كاملة، أفرز عددا من الدروس والخلاصات:
أ- المشروع الديمقراطي فى تونس
يحمله أهله المتشبعون باحترام الديمقراطية على الأقل كألية للحكم وقد تبين بعد عدة اختبارات أن حركة النهضة هي الحامل الحقيقي للمشروع الديمقراطي في تونس لأنها دافعت عنه في السراء والضراء والتزمت بمقتضياته.
ب- توجد مشكلة حقيقية فى دائرة واسعة من النخبة التونسية تتمثل فى ضعف التشبع بالقيم الديمقراطية وآلياتها، الأمر الذي يجعلها تنقض على الديمقراطية وعلى آلياتها حينما يتعلق الأمر بالنهضة. هذا يمثل التحدي الحقيقي أمام نجاح الديمقراطية في تونس. عدة أطراف في بلدنا رفعت الخصومة مع النهضة إلى ما فوق الديمقراطية واستهدفوا كل شيء من أجل إسقاطها بما فيها إسقاط الدولة واسقاط الديمقراطية، والأمر أصبح الآن أوضح من ذي قبل.
ت- النهضة طوال ثلاث سنوات من 2011 الى 2013 استماتت في الدفاع عن الدولة وعن الثورة لأن الاستهداف طالهما معا وهذا يعبر عن وعي عال ووطنية صميمة لدى النهضة في هذه الخيارات بقياداتها وجماهيرها. كانت النخبة القيادية أكثر وعيا بأهمية حماية الدولة عندما كانت مهددة بالانهيار من قبل الفوضويين وأهمية حماية الثورة وأهدافها عندما كانت مهددة ولم تتساهل إطلاقا في تعريض الدولة إلى الخطر. وكانت هذه النخبة تؤمن بأنه لا وجود للديمقراطية ولا للحرية إلا في ظل الدولة. وبالتالي لا بد من المحافظة على الدولة. دافعت النهضة عن الحرية والديمقراطية باستماتة كبيرة واهتمت بها أكثر من اهتمامها بالجانب الاقتصادي والمالي خوفا على الحرية وخوفا على الديمقراطية لأنهما المنعرج الحقيقي الكبير الذي شهدته البلاد التونسية، وكذلك بكثرة محاولات الارتداد على هذا الإنجاز الكبير. حاليا في تونس خسرنا الديمقراطية وهدم مؤسساتها لكن ما زلنا نتمتع بالحرية ونناضل من أجل حمايتها. إما أن نستعيد الديمقراطية أو أن تضيع منا حتى الحرية وان شاء الله نكون قادرين كشعب على إرجاع الديمقراطية التي استهدفها الانقلاب، لا أن نضيع الحرية التي تتعرض إلى امتحان عسير.
ث- أتيت البلاد من ضعف التركيز على الجانب الاقتصادي أيضا.
ج- من أجل حماية الحرية والديمقراطية تحالفت النهضة مع أطراف سمعتها ممسوسة من الفساد
النداء في 2014 وقلب تونس في 2019. اعتبر البعض حتى من داخل النهضة أنها فسدت أو تواطأت أو مسها الفساد. بينما كان قصد النهضة حماية الحرية المهددة. فهي كانت مقاربة سياسية ولم تكن تطبيعا مع الفساد.
ح- دافعت النهضة عن الوحدة الوطنية وأدركنا خطورة التفكك، ودافعت عن المصالحات والتسويات وطي صفحة الماضي بعد معالجته بروح التجاوز وكشف الحقيقة والمحاسبة في إطار العدالة الانتقالية، لأن النهضة راهنت على المستقبل لا على الماضي. وكانت تريد تسوبه مشاكل الماضي لنتجه إلى المستقبل بدل الغوص في مشاكل الماضي والتقاتل عليه. لكن البعض اعتبر أن هذا التمشي تساهلا أو تواطؤا مع المجرمين، ولم ينظر إليه كمقاربة للتعاطي مع أوضاع سياسية واجتماعية.
خ- أمنت الحركة مع غيرها استمرارية الدولة والحريات وحقوق الإنسان طوال حكمها.
وكانت مرحلة الترويكا هي أفضل المراحل فيما يتعلق بحماية الحريات والديمقراطية وحرية الإعلام، ويشهد الكثير منهم بذلك ولكن لا يذكرونه إلا فى مناسبات قليلة.
د- بددت تجربة النهضة فى قيادة الحكم شبهات كثيرة فى داخل البلاد وخارجها
حول موقفها من المرأة مثل تعدد الزوجات وحرمانها من اللباس وحرمانها من الشغل، وتهديد النمط المجتمعي. كما تبدد الجهل بالنهضويين الذي كرسه النظام السابق. وقد سقط كل ذلك من خلال التجربة. وحدث نفس الأمر في مؤسسات الدولة بالتعرف على الإسلاميين مباشرة، وحدث نوع من التطبيع مع الإدارة، وعلى المستوى الدولي، حصل تبديد مجمل الشبهات التي لا يمكن تبديدها إلا بالتجربة الواقعية.
ذ- الحكومة لم تكن قادرة على إنجازكل ما تطلبه منها مؤسسات الحزب
لأن إمكانية البلاد والقوانين الضابطة للعمل لم تكن تسمح بالكثير، وكذلك بعض القرارات الحزبية تكون خاطئة لضعف المعطيات وضعف التجربة. وهذا يمثل إشكالا داخل الحزب، وتظهر الحكومة كما أنها خارجة عن الانضباط وهو ما حصل في بعض الفترات وهو نمو طبيعي. لم تكن لنا خبرة في علاقة الحزب الحاكم بالدولة لأننا عشنا على أن الحزب والدولة طيلة 60 سنة شيئ واحد، ولا الفرق بين الحكومة والديوان السياسي، فوجدنا صعوبة في وضع الحدود بين الحزب والحكومة. ولذلك تعرضت الكثير من الأحزاب إلى التفكك، لكن منسوب الثقة داخل النهضة هو الذي ساهم في تجاوز هذه الصعوبة.
ر- كثرة المشاغل والضغوطات التي تعرضت لها الحركة أفقدها الاهتمام بالجان الاجتماعي.
ز- لم يكن لأي حزب رؤية اقتصادية متكاملة
والتخطيط الحقيقي والخيارات الحقيقية تكون بعد الوصول إلى الحكم بالنسبة للأحزاب الجديدة مثل النهضة. أما قبل ذلك، فهي تملك توجهات عامة ونظرية أكثر منها واقعية. فالدولة بإدارتها أقدر في موضوع إدارة الجانب الاقتصادي والمالي من الأحزاب التي تكون أقدر في موضوع الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
س-هاجس الاستهداف الذي تعرضت له الحركة فى تاريخها ووجود عدة مؤشرات وأعمال تستهدفها بعد الثورة مثل ضغطا كبيرا عليها
وكان موضوع تأمين وجود الحركة حاضرا باستمرار. حيث كانت تشعر أنها مستهدفة في وجودها لا في مواقعها فقط. وهذا له تأثير على بعض سياسات الحركة وحساباتها.
ش- عندما كان الشارع فى جزء كبير منه وتنظيم الحركة مع الحركة لم تستفد منه بالقدر الكافى
لأنه اعثمد في الاحتجاج والرد على الاحتجاجات المناهضة. لكن لم نبدع مبادرات تضيق الخناق على المستهدفين للتجربة فبقينا غالبا في حاله الدفاع.
6- ختاما
أ- أهم ضمانات الحرية والديمقراطية في حكومة ما، هو التزام وزاره الداخلية ووزارة العدل بدورهما كما تحدده الدول الديمقراطية.
فإذا صلحتا صلح الأمر كله، واذا انحرفتا نكون في مشكل كبير. صحيح أن الإعلام له دوره والرأي العام يمكن أن يضغط ولو بصفة سلبية، ويمكن أن تحدث انحرافات. لكنها تبقى وقتية.
ب-خطر الشعبويات التي تستغل الاحوال النفسية للمواطنين وخاصه فى مراحل الازمات كبير وإن كان لا يطول كثيرا
صحيح أنه يجب الاستماع إلى نبض الشارع ومعرفه مزاجه لكن دون تحكيمه في اختياراتنا. لابد من مرجعيات وقيم وثوابت وأقصر الطرق لتجاوز الشعبوبات هو توريطها في إدارة شؤون البلاد ليرى الناس نتائجها الكارثية.
ت- الصراع بين الديمقراطية وأنصارها في الداخل والخارج وبين الاستبداد وأنصاره في الداخل والخارج مستمر وهو نوع من الصراع بين الحق والباطل.
وإنما يحمل القضية أصحابها. ف"اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون"
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته