search

حركة النهضة وفقه المناورة السياسية

أربعون عاما تقريبا تفصل بدايات تشكّل أوّل جماعة إسلاميّة في تونس عن تكوين الجماعة الملهمة لكلّ الحركات الإسلاميّة المعاصرة في كلّ العالم وهي جماعة "الإخوان المسلمون" التي تأسست سنة 1928 على يد الإمام حسن البنّا ولئن اختلفت بعض بيئات النشأة ودوافع التكوين فإنّها عبّرت جميعها عن مظاهر تحوّل جوهري في طبيعة العمل الإسلامي من عمل دعوي تربوي لا يفارق المسجد وينشدّ إلى المنظومة الفقهيّة القديمة إلى عمل حركي ينفتح على كل الجوانب الحياتيّة سواء الاجتماعيّة ( الأعمال الخيريّة) أو السياسيّة ( المشاركة في الحياة السياسيّة ) أو الثقافيّة والتعليميّة ( الصحف والمدارس) ولذلك تشكّلت مع جماعة الإخوان المسلمين شعارات جمعت في مضمونها الدلالي بين العمل الدعوي والسياسي باعتباره جزءا من حضور العمل الإسلامي في نظام المجتمع والدولة وارتفعت في الفعاليّات الشعبيّة والتظاهرات السياسيّة شعارات من قبيل " الإسلام هو الحلّ".

كانت الجماعة شكلا مغايرا للعمل الإسلامي وتجليّات حضوره في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة وكانت امتدادا لحركة الإصلاح المتعلّقة بسؤال النهضة في فضاء سياسيّ تهاوت فيه أشدّ الرموز وهي الدولة العثمانيّة وتصاعدت فيه النزعة القوميّة في تركيا ( تركيا الفتاة ) وفي مصر ( مصر الفتاة) وبدأت الرؤى السياسيّة في الغرب والشرق تغزو فضاء عربيّا لم يستوعب بعد عمق التحوّلات العالميّة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانيّة سنة 1924وصعود الفكرة الشيوعيّة بعد نجاح الثورة البولشفيّة سنة 1918 .

كان فكر الجماعة في بداياته مزيجا من الدعوة السلفيّة والرؤية الاجتماعيّة السياسيّة المنشدّة لرؤية إصلاحيّة والمنفتحة على التنظيم الإداري والسياسي للدولة الحديثة وكان محاولة تنظيميّة للمزج بين عمق الفكرة الإسلاميّة وقوّة الدولة ( الكتاب والسيف) وبذلك قدّمت طرحا تنظيميّا للحكم فانتشرت في تلك الفترة كتابات ورسائل من قبيل " الاقتصاد الإسلامي" والحكم في النظام الإسلامي " ...

ألهمت جماعة الإخوان المسلمين كلّ الحركات الإسلاميّة الأخرى في كلّ البلدان التي بدأت تتشكّل فيها العناصر الأولى للدولة القطريّة فاختلفت أنظمتها السياسيّة (الجمهوريّة والجماهريّة والملوكيّة) ثمّ انعكس الاستقطاب العالمي الموزّع بين الغرب والشرق على الخيارات الوطنيّة والتوجّهات الاقتصاديّة وصياغة النموذج الاجتماعي بعيدا عن الفكر الديني والتقاليد الاجتماعيّة والقيميّة وترسّخت فكرة العلمانيّة من خلال البرامج التعليميّة ومواجهة المؤسسات الدينيّة كالزيتونة في تونس والأزهر في مصر.

ضمن هذا الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي أخذ في الميل نحو النموذج الغربي بقطبيه الشيوعي الاشتراكي أوالليبرالي الرأسمالي بدأت ملامح ظهور الجماعة الإسلاميّة في تونس في أواخر الستينات ثمّ بدأت نشاطها السرّي في أفريل 1972 ..لقد كان ظهورها ردّا على مغالاة نظام الحبيب بورقيبة في انتهاج المنهج العلماني المستمدّ من النموذج الفرنسي المعادي للدين ( غلق جامعة الزيتونة والدعوة إلى إفطار شهر رمضان ...) كما كان ردّا على صعود الحركات اليساريّة والقوميّة التي وجدت في الفضاء الجامعي والمنظّمات النقابيّة مجالا حرّا للعمل السياسي.

كانت بدايات الجماعة الإسلاميّة في تونس عملا تربويّا دعويّا سرعان ما انجذب إلى العمل السياسي في بدايات الثمانيات حيث تمّ الإعلان عن تأسيس حركة " الاتجاه الإسلامي " يوم 06/06/1981 وسعى مؤسسو الحركة إلى الحصول تأشيرة دون أيّ استجابة من الحكومة.

تجاوزت الحركة في رؤاها الفكريّة والسياسيّة مجرّد العمل الدعوي أو التربوي وبدت منشدّة إلى التجربة المصريّة وخاصّة فكر الجماعة وعملهم التنظيمي والاجتماعي والتقت مع هذا الرافد الأساسي في كثير من العناصر والخصائص التكوينيّة فأغلب المؤسسين لا ينتمون للمؤسسة الدينيّة التقليديّة وكان تعليمهم تعليما عصريّا فالشيخ راشد الغنوشي أستاذ للفلسفة وأحد المتأثّرين بالتجربة القوميّة المصريّة في بدايات تشكّل فكره السياسي والشيخ عبد الفتّاح مورو بدأ حياته المهنيّة قاضيا ثمّ محاميا.إنّ تعدّد الروافد الفكريّة والتنظيميّة هو الذي أكسب حركة الاتجاه الإسلامي هذا الانجذاب السريع نحو العمل السياسي وغلّب روح المشاركة في الحكم من خلال التنظّم الحزبي وكانت الثورة الإيرانيّة مرحلة أساسيّة من مراحل التكوين التنظيمي ودافعا من دوافع فكرة القدرة على الحكم المحكوم في العمق بمثاليّة " الحكم الرّاشد والخلفاء الرّاشدين".

إنّ تجاوز العمل الدعوي إلى السياسي من خلال المطالبة بتأشيرة الحزب والمشاركة في الحراك النقابي الطلاّبي من خلال الاتحاد العام التونسي للطلبة هو الذّي عجّل بالمواجهة مع السلطة وبقيّة المكوّنات الفكريّة أو السياسيّة كاليساريين والقوميين وبدأت مرحلة المطاردة التي استعادت من خلالها حركة الاتجاه الإسلامي في تونس وجها آخر من وجوه حضور الجماعة الملهمة ( الإخوان المسلمون) وهو تجربة المحنة والابتلاء باعتبارها قاسما مشتركا جمع كلّ الحركات الإسلاميّة في إطار الصّراع مع السلطة الحاكمة.

لقد كانت أدبيّات حركة الإخوان وكتاباتهم الممزوجة بعذابات المحنة وروح المقاومة والصمود مكوّنا وجدانيّا نشأ عليه شباب حركة الاتجاه الإسلامي ..وتحرّكت اتجاهات الحركة بتحّرك أجنحة السلطة واضطرابها فكانت تجربة الوزير الأوّل محمد مزالي مرحلة من مراحل المهادنة التي سبقت جولة أخرى من جولات الصّراع العنيف أحيانا.

انتهت فترة الحبيب بورقيبة وأغلب قيادات حركة الاتجاه الإسلامي في غيابات السّجون أو في المنافي أو هم ينتظرون حكم الإعدام وكانت حركة الانقلاب النوفمبري تحوّلا في شكل المواجهة لا غير ولم يمنع إمضاء الحركة على الميثاق الوطني سنة 1988 السلطة الحاكمة من التربّص بها عبر إعادة تشكيل للمشهد السياسي باستيعاب العناصر الطيّعة من اليسار أو القوميين وكانت انتخابات 1989 اختبارا للحضور الشعبي للحركة وكشفا للعناصر التنظيميّة الصغرى في الجهات والمحليّات فكانت الحركة معزولة سياسيّا ومكشوفة تنظيميّا فكانت سنين الجمر والمحنة.

خبت الحركة تنظيميّا وتفكّكت عناصر ترابطها بعد أنّ زجّ بكلّ المنتمين إليها والمتبنين لفكرها في السّجون وكانت مظاهر القوّة القمعيّة للدولة متجليّة في معاناة الإسلاميين وعائلاتهم ..لقد كانوا تهمة يتّقيها النّاس ومحنة يختبرها الأهل وتحفظها جدران السّجون.

خمس عشرة سنة من الملاحقات والمحاكمات والتضييق على الإسلاميين لم تقتل الفكرة الإسلاميّة ولم تمنع تجدّد حضورها في المجتمع التونسي وظلّت حركة النهضة وهي الامتداد الفكري والتنظيمي لحركة الاتجاه الإسلامي بعد 1987 ظلّت وجها من وجوه المعارضة السياسيّة والحقوقيّة في الخارج وعادت حركة سريّة مراقبة ومحظورة في الدّاخل فتجدّدت تمظهرات الفكرة الإسلاميّة بعيدة عن التنظيم وكانت عفويّة وشعبيّة وذات تعبيرات رمزيّة ومنها ظهور الحجاب في المؤسسات التربويّة وشيوع التديّن عبر إقبال الشباب على المساجد وظهور قائمات للطلبة المستقلين في الجامعات غير أن روح التديّن فقدت عناصر التنظيم الفكري فتعدّدت روافدها وظلّت منجذبة للفكر الإخواني أو الفكر السلفي انطلاقا من تأثّر شباب الصحوة بشيوخ الدعوة السلفيّة في الفضائيّات ..لقد كان الانفتاح الإعلامي فكّا للحصار الفكري والدعوي والسياسي الذي مارسه النظام فانفكّت عزلة المجتمع التونسي وصار جزءا من حراك عربي وإسلامي كوّنت ثقافته قنوات فضائيّة ومنها الجزيرة القناة الإخباريّة ومنها القنوات الدعويّة.

تشكّلات العمق الديني للمجتمع وتنوّع الروافد واختلاف المسارات.

لم تكن حركة النهضة الحزب المحظور إلاّ جزءا من مشهد سياسي ساكن وراكد ومغيّب ومهمّش من حيث البناء التنظيمي مثلها مثل حزب العمّال الشيوعي التونسي وحزب البعث وحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة وكثير من الحركات اليساريّة أو القوميّة ولكنّها كانت مجموعة من المواقف السياسيّة أو الحقوقيّة التي تفصح عنها بعض الفضائيّات التي أعادت حركة النهضة إلى المشهد السياسي غير الرسمي وتلقّى المشاهد التونسي بيانات حركة النهضة عبر قناة الجزيرة أو قناة الحوار اللندنيّة أو عبر مواقع الانترنيت وتعرّف على رؤى الحركة السياسيّة أو الفكريّة من خلال حوارات الشيخ راشد الغنوشي أو حوارات السيّد لطفي زيتون كما مثّلت جريدة الموقف فضاء حرّا مكّن كثيرا من قادة الدّاخل من التعبير عن قضايا وطنيّة وحقوقيّة كما اتّسع حزب المعارض التونسي السيّد أحمد نجيب الشّابي ذي الخلفيّة اليساريّة الاجتماعيّة " الحزب الديمقراطي التقدمي" للكثير من السياسيين ذوي الميول الإسلاميّة فعبّروا داخل هذا الحزب عن تعدّد الطيف السياسي المعارض لمنهج النظام في التعامل مع مسألة الحريّات ومنها حريّة التنظّم وتكوين الأحزاب والجمعيّات وحريّة التظاهر والاجتماع وحريّة التفكير والتعبير ...

لقد كانت وتيرة التحوّلات في الجسم السياسي التونسي المنهك بسبب القمع والقهر سريعة ومباغتة ومعبّرة عن تحوّلات فكريّة ودينيّة وسياسيّة وتحوّلات عالميّة (ظهور تنظيم القاعدة وأحداث 11 سبتمبر وتشكّل تيّارات السلفيّة الجهاديّة وبروز فكرة الخروج عن الحاكم وانشدادها لتيّارت دينيّة متشدّدة ظهرت في مصر ) نشأت بعيدا عن الحاضنة الطبيعيّة للفعل السياسي كالحركات السياسيّة المنظّمة أو الجمعيّات أو المنظّمات أو غيرها وكانت التحوّلات هامشيّة وشعبيّة غير قابلة للمحاصرة لغياب الفاعل السياسي كشكل تنظيمي ولذلك تعددت مظاهر هذه التحوّلات فهي أحيانا احتجاجات ذات بعد اجتماعي مطلبي أو هي تحرّكات نقابيّة أو تظاهرات فكريّة ثقافيّة ثمّ كانت أحداث سليمان 2006/2007 التي عبّرت عن حدّة الصّراع بين السلطة من ناحية ومكوّن اجتماعي له منطلقاته الدينيّة والسياسيّة ..لقد أعادت أحداث سليمان طرح المسألة الدينيّة في المجتمع التونسي انطلاقا من تناظرات وتباينات كوّنت التعامل الدولي مع الإسلام الجهادي بعيدا عن مفاهيم أخرى من أهمّها عبارة الإسلام السياسي لذلك وجدت الحكومات العربيّة المستبدّة والقمعيّة نفسها مجبرة على إحداث مماثلة مضلّلة بين الحركات الجهاديّة وحركات الإسلام السياسي وألغت بذلك كل الاختلافات المفهوميّة و التباينات في الرؤى والمنطلقات بين كلّ الحركات الإسلاميّة وسعت سعيا محموما لترويج صناعة الإرهاب عند الغرب وروّجت لنفسها كراع للديمقراطيّة وأحدثت بذلك تلازما شرطيّا بين الاستبداد ومحاربة الإرهاب ..وتمكّنت من ترويج بضاعتها لدى صنّاع السياسة في الغرب.

هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريّات: قوّة الضغط وجاذبيّة الاحتماء

" هي إطار عمل سياسي شكلته عام 2005 عدة أحزاب وشخصيات تونسية معارضة" وكانت تلوينا سياسيّا وحقوقيّا عبّرت من خلاله النخبة السياسيّة التونسيّة عن رغبة في تجاوز التناقضات الفكريّة والإيديولوجية وتأسيس أرضيّة مشتركة للعمل السياسي الجماعي تتفق في المشترك الوطني وترسم ملامح لأفق يتجاوز ضيق الواقع السياسي وأزمة الواقع الحقوقي ..ثمانية من الناشطين السياسيين والحقوقيين  شرعوا في إضراب جوع تزامنا مع عقد قمّة المعلومات في تونس وهم الناشط السياسي أحمد نجيب الشابي عن الحزب الديمقراطي التقدمي والمناضل اليساري حمّه الهمّامي عن حزب العمّال الشيوعي التونسي والأستاذ عبد الرؤوف العيّادي عن المؤتمر من أجل الجمهوريّة والأستاذ سمير ديلو عن حركة النهضة والقاضي المختار اليحياوي والمحامي اليساري العيّاشي الهمّامي الإعلامي اللطفي الحجي والحقوقي محمد النوري وتجسّد هيئة 18 أكتوبر قدرة من النخبة السياسيّة على " تكريس وحدة العمل حول الحد الأدنى من الحريات وفتح حوار حول مقتضيات الوفاق الديمقراطي "و"تبقى (الهيئة)مفتوحة على كافة القوى المعنية بمعركة الحريات والتغيير وتؤكد احترامها لاستقلالية كل الأطراف المتشاركة وقبولها للاختلاف ولا تلزم هذه الأطراف إلا بالاتفاقات والمواثيق المشتركة".

رغم التناقضات الفكرية والإيديولوجية وحّد الاستبداد السياسي زمن نظام ابن علي كل التشكيلات السياسيّة والحقوقيّة المعارضة وكوّن لدي النخبة وعيا جديدا بضرورة العمل المشترك بعيدا عن الصراع لمواجهة تسلّط النظام وبذلك نشأت أولى معالم التوافق السياسي .

الثورة: فشل النخبة السياسيّة في الاستجابة لانتظارات الحراك الشعبي.

كانت حادثة حرق محمد البوعزيزي لنفسه يوم 17 ديسمبر 2010 في ساحة من ساحات ولاية سيدي بوزيد القطرة التي أفاضت الكأس والشرارة الأولى التي أوقدت نيران الثورة التي بدأت عفويّة مشدودة لهول المشهد ومحكومة بمشاعر إنسانيّة عمّقتها مظاهر الحرمان التي كان عليها سكّان المناطق الداخليّة ثمّ سرعان ما اتّخذت بعدا مطلبيّا وحقوقيّا أطّرته الاتحادات المحليّة والجهويّة كما شارك المحامون والهيئات الحقوقيّة في تغذية هذا الحراك الشعبي الذي اتّخذ شكل المواجهات في الأحياء ليلا والمظاهرات المؤطّرة نقابيّا نهارا وضمن تنامي الحركة المطلبيّة تطوّر الشعار وتحوّل من شعار جهوي إلى شعار مطلبي أجملته عبارة " التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" ثمّ شعار" شغل ..حريّة ..كرامة وطنيّة".

استخفّ النظام بالحراك الثوري وحاول استعارة نفس العبارات التي واجه بها التحرّكات الاجتماعيّة في الحوض المنجمي أو في الجنوب وأطلقت الدوائر الإعلاميّة المحيطة بالسلطة عبارات من قبيل " المخرّبين" وحاولت تهميش الأبعاد الاجتماعيّة كارتفاع معدّلات البطالة في صفوف أصحاب الشهادات العليا وانتهجت نفس المنهج القديم في معالجة القضايا الاجتماعيّة عبر تخوين كلّ صوت معارض والتركيز على المنجزات الاقتصادية للنظام ( المعجزة الاقتصاديّة ) .

لم يعد إعلام النظام قادرا على صنع رأي عام معاد للحراك الثوري وغلب الارتباك والارتجاليّة على أدائه الإعلامي في ظلّ انفتاح إعلامي جسّدته قناة الجزيرة وقناة الحوار اللندنيّة خاصّة وكان "الفايسبوك" الشكل الأرقى للإعلام البديل الذّي أذكى روح الثورة وأكسبها بعدا شعبيّا خالصا بعيدا عن الخطاب الإعلامي الرسمي وحوّل كلّ مدن تونس وقراها إلى فضاء ثوري حيّ وقادر على ابتكار أشكال ثوريّة غير تقليديّة وغير منظّمة وبالتالي يصعب محاصرتها.

لقد حاول النظام تحييد المكوّنات المكشوفة للعمل المعارض للسلطة كالأحزاب " المعارضة " آنذاك أو الرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان أو الاتحاد العام التونسي للشغل مجسّدا في المركزيّة النقابيّة التي أحدث توازنا دقيقا بين تزكية النظام وتحقيق كمّ مقبول من المطالب الاجتماعيّة ولم تكن المركزيّة النقابيّة قادرة على دفع الهياكل النقابيّة الجهويّة والمحليّة إلى الحياد بل لقد ساهمت المكوّنات الأساسيّة والمحليّة في تأطير التحرّكات الاحتجاجيّة داخل الجهات وساهمت قطاعات كثيرة ومنها قطاع التربية بشقيه الأساسي والثانوي في تغذية هذا الحراك بأشكال نقابيّة فاعلة ومنظّمة ( الوقفات الاحتجاجيّة وبيانات المساندة).

اتّسعت جغرافيا الثورة وامتّدت شمالا وجنوبا واتّجه النظام وجهة المعالجة الأمنيّة العنيفة والقمعيّة وسقط أوّل الشهداء في مدينة منزل بوزيان من لاية سيدي بوزيد يوم 24/12/2010 وهو الشهيد محمد العماري وفي نفس اليوم كانت مسيرة شعبيّة يتقدّمها المحامون تجوب وسط ولاية القصرين لترفع أوّل شعار ذي مضمون سياسيّ يدفع بالمسألة السياسيّة في قلب الحراك الثوري وهو شعار " حرّيّات...حريّات لا رئاسة مدى الحياة".

في مدينة تالة والقصرين تجاوز الثوّار حواجز الخوف وأصبحت المواجهات الخبز اليومي لشباب الجهات الداخليّة وتجاوز النظام مخاوف المواجهة القاتلة وأدرك الساسة من الموالاة والمعارضة الحجم الحقيقي لما يحدث في تونس وحاول كلّ منهما مغالبة الوقت في تشكيل رؤية سياسيّة تستثمر ما يحدث وتدفعه نحو مكاسب سياسيّة .ولذلك تحرّكت بعض الأحزاب المعارضة كالحزب الديمقراطي التقدّمي وحزب التجديد في حين حاول الحزب الحاكم البحث عن مخارج سياسيّة ضمن رؤية مؤطّرة من حيث الحركة والهدف.

في مسارات الثورة ويوميّاتها كان الإسلاميّون جزءا من الفاعلين الثوريين ولم تكن النهضة مكوّنا بارزا تنظيميّا. وكان الشباب الغاضب الذي وحدّته هموم الوطن وخطايا النظام والذّي لم توجّهه أحزاب سياسيّة أو منظّمات وطنيّة هو الفاعل الحقيقي ...كانت الثورة التونسيّة نسيج وحدها ..

أشار خطاب ابن على ليلة 13 جانفي إلى معالم النهاية لنظام سياسيّ استبداديّ غذّته عصابات المال والفساد وأمدّه خطاب إعلاميّ انتهازيّ وحضور حزبيّ باهت للمعارضة أمدّه باكسجين البقاء ..حاول الإعلاميّون المرتبطون بالنظام والسياسيّون المتعّلقون به وأشباه النخب المثقّفة وأد الحراك الثوري واستثمار الدم من أجل تحقيق بعض فتات السياسة والحقوق وكان الحديث بعيد الخطاب متعلّقا بإصلاحات سياسيّة جزئيّة وفتح بعض من الهوامش المحرّمة في الإعلام وحريّة التعبير والتفكير لقد فكّر كلّ "رموز" المعارضة آنذاك داخل دائرة النظام القائم لا خارجها وأكّدوا تلك المسافة الفاصلة بين طموحات الجماهير الثائرة ورؤى السياسيين الضيّقة.في تلك الليلة الفارقة في عمر الثورة كان تدخّل الشيخ راشد الغنوشي واضح المعالم والملامح فاصلا مع النظام ممّا دفع كثيرا من المنتمين للحركة إلى الالتحام العلني بشباب الثورة في الساحات والمظاهرات يوم 14 جانفي 2011.

لم تكن النهضة الحزب السياسي المحظور إلا مكوّنا غير مرئيّ من مكوّنات الثورة وكانت جزءا من حالة ثوريّة تونسيّة تجاوزت الأحزاب والأطر المنظّمة للمنظّمات والهيئات وكانت مجموعة من المواقف التي تتعالى من رموزها في الخارج عبر المنابر الإعلاميّة العالميّة.

هروب ابن علي ومسابقة ملء الفراغ:

لم يكن تهاوي نظام ابن علي بتلك السرعة متوقّعا وهو ما أكّد وجود عناصر خلل في بنية النظام في حدّ ذاته ساعدت التحرّك الثوري على إسقاط مكوّن أساسيّ من مكوّناته ( الرّئيس)دون أن يسقط بقيّة المكوّنات ولقد كشف هذا التهاوي السريع والمباغت المساحات الفارغة في الحراك الثوري وعمّق الارتباك والارتجاليّة ولئن ساعد غياب البناء التنظيمي للثوّار على الاستمراريّة والعفويّة التي ميّزت الثورة التونسيّة فإنّه طرح بعد هروب ابن علي أشدّ المشاكل التي طفت على سطح الواقع السياسي في تونس ومنها مسألة العلاقة بين الدولة والثورة ولم تتمكّن المكوّنات السياسيّة لمعارضة من فهم حقيقة التحوّل السياسي في تونس واختلفت المقاربات وعبّرت عن تباين بلغ حدّ التناقض في فهم التحوّلات وإدراك المطالب الثوريّة.كانت الأحزاب السياسيّة المعارضة "رسميّا" مثل حزب التجديد والحزب الديمقراطي التقدّمي أكثر ميلا للتحرّك في فضاء " الدولة القديمة " وهي المنتوج الإداري والإعلامي والأمني والقضائي لحزب التجمّع ونظام ابن علي وما أرساه من نظم للسياسة والحكم وكانت رؤيتهم "إصلاحيّة" لا رؤية ثوريّة وبدا الصّراع بين الشباب الثوري الحامل لمشروع الثورة ثمّ الدولة وبقيّة العناصر المكوّنة للمشهد السياسي كالأحزاب والمنظّمات والهيئات جليّا في القصبة 1 والقصبة 2 غير أنّ الشباب الثوري لا يملك التجربة السياسيّة ولا الإمكانيّات التنظيميّة التي تمكّنه من فرض رؤاه في الواقع السياسي التونسي الجديد ولذلك سارت حركة الثورة في مسارات المهادنة وأجّلت حسم العلاقة الإشكاليّة بين دولة المنظومة القديمة التي ظلّت قائمة في شكلها الإداري ورموزها السياسيّة ودولة "الثورة" المرتبكة والمتناقضة.

كانت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي  التي تأسست في 15 مارس 2011 أثناء الثورة، برئاسة  عياض بن عاشور وجها من وجوه المعادلة الصعبة التي أنتجها الواقع السياسي التونسي بعيد الثورة وهي معادلة الثورة والدولة  .والعجيب في تلك المرحلة هو مستوى التناسب بين مكوّنات السلطة التنفيذيّة متمثّلة في الرّئيس فؤاد المبزّع ورئيسي الوزراء محمد الغنّوشي في مرحلتين والباجي قائد السبسي في مرحلة ثالثة فهؤلاء علامات رمزيّة لبقاء الدولة القديمة واستمراريّة نظامها وقدرتها على حماية عناصرها الإداريّة والأمنيّة والقضائيّة أمّا الهيئة التي عبّرت ولو جزئيّا عن ملامح المكوّن الثوري باعتباره قوّة تشريع وتسيير فإنّها جمعت نشازا من الفرقاء الذين استوعبهم فراغ الواقع السياسي ولم تجمعهم الرؤية الثوريّة ولا الموقف السياسي الموحّد .

داخل الهيئة استفاد اليسار والقوميّون من القدرة التنظيميّة التي رسخّها العمل النقابي والحقوقي زمن نظام ابن علي في حين افتقدها الآخرون. وداخل الهيئة كذلك استعاد فرقاء السياسة والفكر معاركهم القديمة التي أجّلها النظام عشرين عاما واطمأنّ رموز الدولة القديمة لغفلة الثائرين وغذّوا معاركهم عبر خلق انحرافات وهوامش بعيدا عن أسئلة الثورة واستحقاقاتها ...للدولة القديمة قدرة على التحريف والتزييف وصناعة المعارك الوهميّة التي انجرّ إليها هواة السياسية ومغامروها وعلت شعارات غير التي ألفها الثوّار في الشوارع والساحات ..إنّ أشدّ أشكال التحريف والتزييف التي طالت الحراك الثوري هو نقل المعارك الإيديولوجية المعزولة عن مقامها والغريبة عن سياقها إلى الواقع التونسي الجديد الذي أفقده النظام القمعي المهارة النقديّة والمناعة السياسيّة ..لقد كان اختراق الجسم الثوري بأدوات ثوريّة مزيّفة ومنها معارك الحداثة والهويّة ومعارك الدّين والدولة ...هي معارك واهمة ومضلّلة أفقدت الثورة زخمها وعفويّتها وحوّلت الفعل السياسي إلى ممارسة اقتناص للخصوم وتجريح لهم.لقد أدرات الدولة القديمة معركة بقائها بقدرة عالية وسقط " الثوريّون الجدد" في المتاهة وأمضوا جهدهم الثوريّ في دائرة مغلقة.

النهضة: إعادة اكتشاف الذات .

لم تكن عودة الشيخ راشد الغنوشي إلى تونس يوم 30 جانفي 2011 مجرّد حدث عابر بل لقد كانت عودته علامة فارقة في الثورة التونسيّة وإحدى علامات تحوّلها وعنصرا من عناصر تكوّنها التي يمتزج فيها الواقعي بالحالم وهي مساحة التداخل العجيبة بين دائرة المحنة ودائرة التفاؤل.عودة الشيخ راشد الغنوشي عودة لقطعة من التاريخ التونسي المعاصر التي أسقطها النظام بكلّ مكوّناته الأساسيّة أو الخفيّة وحاول طمسها عبر قوّة الدولة ومؤسساتها ..الفكرة أحيانا أقوى من الدولة وما يطمسه الجلاّد تحفظه الأرض والذّاكرة..عاد الشيخ راشد الغنوشي المحنة والفكرة ..ليختبر الشيخ نفسه زمن الثورة.

في سنين المحنة والغربة تغيّر الإنسان والأوطان وتلوّنت أفكار الحركة بألوان تربة المهجر وعصفت رياح كثيرة في ثوابت الفكر والقناعة.وفي تونس رجال آخرون غيّرتهم سنون القمع ..فماذا لو أنكر الأصل فرعه؟ ..وماذا لو أنكر الشبيه شبهه ؟.

أصبحت الحركة مكوّنا من مكوّنات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وجزءا من عناصرها الإديولوجيّة وخصما من خصوم السياسة داخلها.وداخل الهيئة تراءت بعض ملامح هيئة 18 أكتوبر وانكشفت بعض أضاليلها...فما يصنعه الاستبداد تذهبه أوهام الحريّة. وداخل الهيئة سقطت النهضة ككل الأحزاب المكوّنة لها في فخّ الايدولوجيا ولم تستوعب كبقيّة مكوّناتها مخاطر الدولة العميقة وقدرتها على التشكيل الذاتي لصورة مموّهة تتجاوز الصورة الأصل ولكنّها تحتفظ بسماتها الأساسيّة وعوامل بقائها ..في معارك الهيئة تجليّات لرؤى الحكم والسياسة وتناظرات بين المواقف في مسائل الاقتصاد والنمط الاجتماعي والثقافي ومحاولة للتحشيد الانتخابي ضمن سباق محموم نحو السلطة ولم تسأل كلّ الأحزاب وكل المنظّمات والهيئات المكوّنة للهيئة عن المكوّنات العميقة للسلطة والحكم ومدى استجابتها للواقع الجديد وقابليّتها لاستيعاب الفكر الثوري والرؤية الثوريّة.

في الوقت الذي استعادت فيه الأحزاب المعارك الفكريّة القديمة كانت الدولة العميقة تجدّد طرائق خطابها وتتطّهر من خطاياها ومفاسدها لتعيد بناء الوعي الشعبي عبر القفز  إلى الوراء وتجاوز مرحلة تمتدّ في التاريخ التونسي المعاصر على مدى ثلاث وعشرين عاما فكان الباجي القايد السبسي الصورة المستوحاة من الصورة النموذج للزعيم ( الحبيب بورقيبة ).

إنّ إجهاض أيّ محاولة لتفكيك العناصر المكوّنة للعمق الفاعل في الدولة العميقة كالجهاز الأمني أو القضائي أو الإداري وبناء هياكل مماثلة للهياكل التنظيميّة التي ساهمت في نجاح الثورة كالنقابات أو المنظّمات أو حتى الأحزاب تعبّر عن قدرة الدولة العميقة على تحليل العناصر البنائيّة للحراك الثوري من جهة كما تعبّر عن وعي الدولة العميقة بعجز الأحزاب المشكّلة حديثا على إنتاج بدائل للحكم والتسيير من جهة ثانية.تعدّدت النقابات الأمنيّة وتشكّلت نقابة للقضاة وتمّ دفع فرحات الراجحي للاستقالة واستعان الباجي قايد السبسي بالمخزون الحزبي والإداري والأمني للمنظومة القديمة ووجّه كلّ الأحزاب نحو السباق الانتخابي وأمات كلّ العلامات الرمزيّة المكوّنة للذاكرة الثوريّة انطلاقا من مفارقة (الفوضى وهيبة الدولة ) ولذلك دفعت كلّ الأحزاب للمشاركة في قتل النفس الثوري الأخير في القصبة 3.

لم يمكّن تسارع الأحداث وتطوّر الواقع السياسي وتناقضاته لم يمكّن كلّ هذا حزب حركة النهضة من تلمّس الأرضيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة للمجتمع التونسي ولم يمكّنه من اكتشاف التحوّلات التي أنتجت تلك اللحظة الثوريّة كما أنّ تعدّد الروافد واختلاف التجارب بين المؤسسين للحزب والمنتمين إليه لم ينل حظّا من الاهتمام .

في حزب حركة النهضة مدارس سياسيّة ومواقف متباينة ورؤى مختلفة قد تبلغ حدّ التناقض أحيانا فالقادة الذين تشرّبوا التجربة الديمقراطيّة في سنين المنفى في المهجر أدركوا من السياسة ما لم يدركه قادة الدّاخل الذين خبروا قمع النظام وظلمه وكانوا الأكثر تعبيرا عن معاناة الناس في ظلّ الاستبداد وقادة الدّاخل هم الذين أداروا بعضا من التوافقات السياسيّة زمن الاستبداد وشاركوا في الحراك الحقوقي والنقابي أو الطلاّبي واكتسبوا في سنين المحنة قدرة على المناورة وفرض مساحات للحركة السياسيّة بعيدا عن المراقبة أو المتابعة واستفادوا من التجربة اليساريّة أو القوميّة عبر خلق فضاء مخفيّ للعمل السياسي عبر تلوينات نقابيّة أو مداخل حقوقيّة ولقد أعاد الإسلاميّون عقد الصلة بينهم وبين النّاس وصاروا جزءا من هموم النّاس ومعاناتهم كما عبّروا عن بدايات تشكّل لفعل الرّفض المضمّن في إطاره الشعبي لا السياسي ( معركة الحجاب في تونس ).

ألغى التسارع في وتيرة الأحداث السياسيّة بعد الثورة كشف التباينات وأخفى مناطق الاختلاف بين مكوّنات الحركة وعناصرها التاريخيّة ولم يتح للملاحظين إدراك التحوّلات الفكريّة أو الحركيّة التي أصابت منهج الحركة ودفعتها إلى المراجعة وفق قراءة نقديّة للمسار ولذلك اختلف خطاب الحركة الجماهيري واختلفت صور حضورها لدى النّاس.

لم تكتسب النهضة صورة واحدة في وجدان أنصارها والمنتمين إليها حديثا من الشباب بل كانت عند البعض تفاعلا وجدانيّا دفعته أدبيّات السجون والمنافي وتضامنا إنسانيّا حكمته روح الاعتراف بمدى الظلم الذّي طال هؤلاء النّاس وكانت كذلك انشدادا فكريّا لفكرة الإسلام والشريعة والدّين وأحيت حركة النهضة وهي الامتداد الفكري للاتجاه الإسلامي , أحيت لدى شريحة "متديّنة " من الشعب التونسي أحلام العودة إلى اللحظات المضيئة من التاريخ الإسلامي وهي لدى المقهورين والمظلومين اجتماعيّا صورة " لتقوى السياسية" التي تقوم بديلا لصورة الفساد والارتشاء والمحسوبيّة والتفاوت الجهوي والاجتماعي.

لم تكن النهضة مجرّد حزب سياسي بل كانت كلّ هذا الكمّ المتداخل من المعاني والأحلام...كانت النهضة أفقا متفائلا يسعى إلى تجاوز واقع مأزوم ومألوم..ولم يكن أحد ليدرك الحدود الفاصلة بين تلك العناصر المتآلفة ولم يكن أحد ليدرك الحدود الفاصلة بين أحلام الفعل وإمكاناته بل إنّ كثيرا من قادة النهضة وزعمائها أجّلوا البحث في المكوّنات البنائيّة للحركة وتعمّدوا المزج بين عناصر اللوحة المتباينة والمتناقضة التي كوّنت جاذبيّة النهضة ..إنّ النزوع إلى الغموض وتعمية المشهد عنصر من عناصر الإدهاش وخلق صورة فاتنة وجاذبة.

الانتخابات: محنة الاختيار وبلوى الاختبار .

كان مؤكّدا فوز حزب حركة النهضة في الانتخابات التشريعيّة ليوم 23/10/2011 لأنّه الحزب الأكثر تنظيما والأقدر على تعويض القدرة الهيكليّة للحزب المنحلّ وأثبت الحزب عمقا شعبيّا ثاويا في المدائن والقرى والأحياء سرعان ما أظهرته الانتخابات  غير أنّ الفوز في الانتخابات التشريعيّة بتلك النسبة التي لم يتوقّعها كثير من محترفي السياسة في الدّاخل والخارج أعاد طرح أسئلة الحكم على حركة سياسيّة لم تتجاوز في تجربتها عتبات السجون والمنافي ولم تتحمّل في مسيرتها السياسيّة مسؤوليّة الحكم أو المعارضة العلنيّة والمنظّمة وظلّت قدرتها على فهم التحوّلات الكبرى التي أصابت البناء المجتمعي والبناء التنظيمي للدولة عاجزة عن ملامسة مراكز الفعل ومحاوره الأساسيّة فالإسلاميّون في تونس لم يكونوا مكوّنا بنائيّا في الدولة بقدر ما كانوا مادّة بشريّة تختبر فيها مؤسسات الدولة قدرتها على الرّقابة والتسلّط والقمع.كانت نتائج الانتخابات التشريعيّة في 2011 مشهدا "سيرياليّا" تمتزج فيه عناصر العبث التاريخي والغرائبيّة الأسطوريّة التي تتجاوز منطق التاريخ وتلازماته الشرطيّة .

غمرة الاحتفال بالنصر أضاعت كثيرا من ملامح العقل ونشوة الفوز أذهبت الشعور بمحنة الاختيار ولم يستوعب " المنتصرون" سؤال الحكم ولم يدركوا غضب " المهزومين".

حاولت حركة النهضة في حملتها الانتخابيّة سنة 2011 الاستجابة لأفق انتظار أطياف شعبيّة مختلفة في المنطلقات ومتباينة في المقاصد ولم تدرك النهضة معالم النشاز في مجموع ناخبيها الذين تجاوزوا المليون وثلاثة مائة ألف ناخب .

أعدّت النهضة ككلّ الأحزاب المشاركة في الانتخابات التشريعيّة برنامجا انتخابيّا حوى 365 نقطة توزّعتها محاور اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة ...وحاولت من خلاله الظهور بمظهر الحزب السياسي القادر على الحكم كما حاولت الاستفادة من الشعار الثوري وتحويله إلى خطاب انتخابيّ كالوفاء للثائرين والشهداء عبر تحقيق مطالبهم وشاع في المهرجانات الانتخابيّة لرؤساء قوائم النهضة في الجهات الجمع بين فكرة الثورة وفكرة الثروة وأضحى الحديث عن دولة العدل والرّفاه ثابتا من ثوابت الدعاية السياسيّة يتلّقاها التونسيّ في كلّ مهرجان خطابيّ لحزب حركة النهضة.

لم تكن مسألة صياغة الدستور الجديد جليّة في الخطاب الدّعائي للحركة في حملتها الانتخابيّة وتنامى الشعار التنموي والاجتماعي وسقطت النهضة في طرح مسألة الدستور ومناهج الحكم في المهاوي والفخاخ التي أحسنت صنعها وسائل إعلاميّة مازلت أذرع الدولة العميقة الماليّة والإعلاميّة تصنع خطابها ومواقفها.اقتصر الموقف من الدستور في الخطاب الدّعائي للحركة في الحملة الانتخابيّة على إشكاليّة الدولة والهويّة إلى حدّ أغرى بعض قادتها المؤسسين باستعارة " عبارة الخلافة السادسة " .كانت العبارة في عمقها الفكري والوجداني انجذابا للرؤى الأولى التي كوّنت فكر الحركة ومنهجها وأقحمتها في دائرة الرؤية الأصوليّة للإسلام باعتباره منهج حكم ونصّ تشريع.لم تكن الأطياف الشعبيّة في تلك المرحلة من تجربة الانتقال السياسي قادرة على فهم الحدود الفاصلة ومظاهر التمايز بين الحركة وبقيّة التمظهرات الأخرى للفكرة الإسلاميّة وخاصّة التيّار السلفي بشقيّه العلمي( الدّعوي) والحركي (الجهادي).بل إنّ كثيرا من أنصار التيّار السلفي دعوا جمهور الناخبين إلى انتخابات حركة النهضة ضمن خلق مساحة فاصلة بين مكوّنات العائلة الإسلاميّة من ناحية والعائلة العلمانيّة من ناحية أخرى.هل تعمّد قادة الحركة طمس الفوارق الجوهريّة الفاصلة بين الحركة وبقيّة مكوّنات العائلة الإسلاميّة أم أنّ تعدّد الرّوافد واختلافها هو الذي أكسب الحركة هذا الغموض المنهجي في التعامل مع مسألة الإسلام السياسي؟

أكّد كثير من زعماء حركة النهضة وقادتها في خطابهم الإعلامي على الهويّة التونسيّة للحركة وأكّدوا أن حركة النهضة تونسيّة الهوى والمنشأ والرؤية وحاولوا الوصل بينها وبين حركة الإصلاح وأعادوا بعض حلقات تكوينها الوطني والنضالي إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي وكان هاجس تجذير الحركة وتأصيلها في تربة تونسيّة بيّنا في كل الردود التي ألقاها قادة الحركة ردّا على سؤال العلاقة بين النهضة وحركة الإخوان أو بقيّة الأحزاب والحركات المنتمية للعائلة الإسلاميّة العالميّة .

إنّ هذا التشابك والتداخل والتمايز والاختلاف بين مكوّنات عدّة للفكر الإسلامي السياسي والذي استوعبته النهضة وحاولت تذويب عناصر النشاز فيه سيتحوّل إلى عنصر إشكالي في التعريف والتصنيف وسيبقى محورا للجدال السياسي حول الحركة في بعدها المفهومي والبنائيّ .

تجربة الترويكا: تجربة في التجديد السياسي أم هي خضوع لبعض مكاره الحكم؟.

منع القانون الانتخابي ( قانون التمثيل النسبي )من استئثار حزب حركة النهضة بالأغلبية المطلقة ومكّنها من نسبة لا تتجاوز 41 بالمائة وما أفرزته الانتخابات من نتائج أكّد رغبة حركة النهضة في بناء حكم ائتلافي توافقي في المرحلة الانتقاليّة ولم تكن هذه الرغبة محكومة بشروط التوافق الفكري أو السياسي أو التناسب بين البرامج والأهداف وإنّما كانت محكومة بتوازنات حزبيّة أفرزتها الانتخابات التشريعيّة فكانت الترويكا تجربة من تجارب الحكم التوافقي المحكوم بدوره بكثير من معالم الإكراه السياسي الذي تجلّت آثاره سريعا في ذلك الاختلاف في منهجيّة التسيير والتباين في تبويب الأولويّات بالنسبة للأحزاب الثلاثة المكوّنة لأجنحة الحكم في حكومة الترويكا.أصاب الخلل المنهجي في مبدأ التوافق وتناقضاته حزبي المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحزب التكتّل من أجل العمل والحريّات وطفت على السطح خلافات جوهريّة كشفت ضعف التحالف ووهن التوافق وبدأت مظاهر التناقض بين أولويّات كل حزب من الأحزاب الثلاثة حاسمة في كشف ملامح الصراع والتنافر .

كانت الترويكا تجربة سياسيّة متسرّعة و ارتجاليّة حكمتها نتائج الانتخابات ولم تكن توافقا حقيقيّا في الرؤية والغايات والمنهج لقد كانت رسالة سياسيّة حاول من خلالها حزب حركة النهضة الإجابة عن أسئلة خصوم السياسة والفكر من الأحزاب التونسيّة وأسئلة الغرب المرتاب من حكم ملوّن بألوان الإسلام السياسي ولذلك بدت عناصر الفشل أقوى من عناصر النجاح واهتزّت في هذه التجربة عناصر الترابط الحزبي لمكونيّن أساسيين هما حزبا المؤتمر والتكتّل وأدركت النهضة عسر المرحلة وغموض المسار.

في تلك المرحلة الانتقاليّة الأولى خاضت حركة النهضة صراعا ثنائيّا استنزف جهدها التنظيمي واستفرغ قدرتها على المناورة فقد واجه نوّاب حركة النهضة في المجلس التأسيسي خصوم السياسة والايدولوجيا وعمّق تفكّك حزبي المؤتمر والتكتّل عزلة الحركة واستعادت تلك الأحزاب معارك الدين والدولة وفي المشهد الحكومي غذّت أحزاب المعارضة المطلبيّة واستعانت بالمنظّمات النقابيّة في توسيع دائرة الاحتجاج الاجتماعي وتجاوزت الخصومة السياسيّة كل حدّ واستعان خصوم النهضة بآلة إعلاميّة تفنّنت في صناعة معارك وهميّة لتحريف المسار واستنزاف الجهد الثوري وتزييف الوعي.

الاغتيال السياسي وفنّ الاستثمار في الدم

لم يكن اغتيال المناضلين السياسيين شكري بلعيد يوم 06/02/2013 والحاج محمد البراهمي يوم 25/07/2013 بالحدث العابر في التاريخ التونسي المعاصر بل لقد أضحى الاغتيال السياسي عنصرا من عناصر اللعبة السياسيّة العنيفة والقاتلة والغامضة التي أعادت رسم مكوّنات اللوحة السياسيّة ضمن إطار من الخوف الذي دفع كل المجموعة الوطنيّة ومنها الأحزاب "الثوريّة" إلى إعادة القراءة في المسارات والمآلات والمنهج والطريقة ...بعد الاغتيال لم تعد الثورة في مفهومها السياسي (قانون تحصين الثورة) ولا الإداري (مقاومة الفساد) ولا الأمني ( الأمن الجمهوري والجيش الوطني ) ولا الاجتماعي(التنمية والعدالة ) هي المستهدفة جذريّا وإنّما استهدفت المكوّنات البنائيّة للدولة ومنها وحدة الشعب والسلم الأهلي وفي تلك المرحلة حاولت النهضة حمل الدولة بيد وحمل الثورة باليد الأخرى وأدركت حكمة السياسة وغلّبت راية الوطن على راية الحزب .

المشهد المصري: العودة إلى دائرة المحنة.

مرّة ثانية يلتقي المشهد السياسي التونسي بالمشهد السياسي المصري ويتناظران ففي 25 فيفري 2011 التقط الشارع المصري في القاهرة صدى الثورة التونسيّة وسار في مساراتها وفي 03/07 /2013وما بعدها التقط الشارع التونسي في باردو صدى الانقلاب المصري واستعار منهجه وأدواته ودفع البعض من خصوم السياسة في تونس المدفوع بمشهد استباحة الدم المصري في الشوارع والساحات دفع فصيلا من المعارضة إلى محاكاة الواقع المصري غير عابئ بتكلفة الدم والإنسان وفي تلك المرحلة تداخلت العناصر المشكّلة للعلامة الانقلابيّة من مكوّنات الدولة العميقة ورموزها السياسيّة وخصوم الفكر والسياسة وأموال الخليج الخائف والمتربّص بالربيع العربي والإعلام المدفوع الأجر ودوائر المخابرات العربيّة والأجنبيّة ومحترفي الإرهاب السياسي والديني...

في تلك المرحلة استفادت حركة النهضة من الدرس المصري القاسي والدّامي وأدركت بحكمة بالغة المسارات وخيّرت السير عبر توازنات دقيقة تحفظ فيها كيان الدولة وكرامة الثورة.

محنة النبتة في أرض صلبة صلدة لا تصلح للنبات ومحنة الفكرة في أرض متحوّلة متحرّكة لا تدرك الثبات ومحنة السياسة فكّ لغة الواقع ومحنة التغيير فهم شروط تحقّقه.

النهضة جماعة واتّجاه وحركة.. هذا مسار التاريخ في حكايتها وهي المحنة والابتلاء في حديث أهلها وهي مدرسة من مدارس الفكر الإسلامي الحديث جرّبت فتنة الفكرة ومحنة الحكم ..وأدركت تلك المسافة الفاصلة بين جاذبيّة الخطاب الإيديولوجي أو السياسي أو الثوري ومعركة البناء الواقعي ..أخطأت أحيانا في تقدير مسافات الفصل والوصل مع بقيّة الأحزاب والمنظّمات والهيئات وأخطأت أحيانا كذلك في اتجاهات السير واكتشاف النهايات ولكنّها لم تخطئ أبدا في عناوين الوطن.

النهضة اليوم جمع من الرؤى الفكرية والدينيّة والسياسيّة يحتاج إلى صهر وصقل وتجربة في الحكم أرست فكرة التوافق تحتاج إلى نضج والنهضة اليوم جسم حيّ عمره خمسة وأربعون عاما أوّله جيل الدعوة وآخره جيل الثورة ....وما بينهما أسئلة التاريخ والإنسان.