كانت نشأتنا "الاسلامية" (تمييزا على "المسلمة") تعتبر أم كلثوم عنوانا لخسران ديننا ودنيانا. وأذكر ان عددا من مجلة المعرفة نشرت فيه لقطة وتعليق، كانت اللقطة قول أحد المعجبين بأم كلثوم: "انها كانت تؤخر طلوع الفجر"، وكان التعليق: "حقا إنها أخرت طلوع الفجر".
وأذكر أن أحد الإخوة "أسلم" (لم نكن نطلقها للامانة ولكن كنا نستبطنها) بعد أن كانت أم كلثوم "معبودته" لا يفارق سماع صوتها بليل أو نهار ويحتفظ بتسجيلاتها، وكنا ننظر إليه بإعجاب ونزهو به فرحا.
كنت مرة في حوار عاصف مع أحد زملائي في المعهد حول أم كلثوم فسألني هل تعرف أغنية "القلب يعشق كل جميل" فرددت عليه بمكابرة وعناد: لا يشرفني ان اعرفها.
رغم أنني نشأت على حب الشعر فصيحه وشعبيه وعلى حب الغناء ... وغالبا ما أترنم بما أحفظ ... وإن لم أكن صاحب صوت حسن... إلا أنني ما إن سلكت طريق "الانتماء" حتى نشأت عندي حساسية مفرطة خاصة لأعلام الفن الذين يهيم بهم الناس .... حساسية تغالب طبعا مفطورا على حب النغم والصوت الحسن والشعر البليغ .... يحدث كثيرا أن تهزني آية معبرة أو مثل أو حكمة أو مجرد جملة مكتنزة المعنى والصورة أو بيت شعر جميل، فتملك علي كياني فأبقى أرددها أياما ...
لما دخلت الجامعة سكنت في المبيت الجامعي مع رفيق الدراسة الابتدائية والثانوية وابن بلدتي محمد بن بلقاسم فيلسوفنا المتألق ... وكان بيننا حب ومودة وتقدير لم تزده الأيام إلا متانة .... وكان أن تجاذبنا أطراف الحديث مرة فعبر لي عن إعجابه بأم كلثوم وانه لا يتصور أحدا يملك ذائقة فنية ولا يسمع لها ولا يستعذب غناءها .... لما يأتيك الموقف ممن تقدر وتحب وتحترم لا يستطيع عقلك وقلبك رميه وراء ظهرك بسهولة .... وبدأت رحلة السماع والاستمتاع مع أم كلثوم في روائعها الدينية التي اجتمعت فيها معها القمم: الشعراء الأعلام وعلى رأسهم شوقي والملحنين الكبار وعلى رأسهم رياض السنباطي.
والحق أنني أعجبت بأغانيها الدينية : ولد الهدي، نهج البردة، سلوا قلبي، إلى عرفات الله ، الثلاثية المقدسة، القلب يعشق كل حميل، أغاني فلم رابعة، رباعيات الخيام، حديث الروح .... ولم أحفل بما سواها سوى استماعات عابرة للاطلال وهذه ليلتي وثورة الشك وأفديه إن حفظ الهوى (أداء رشيد غلام ولحنه أعجبني اكثر) وغيرها من الأغاني.
كانت أغانيها وخاصة إلى عرفات الله وخواتيم ولد الهدي وسلوا قلبي والثلاثية المقدسة تملك علي كياني وتسيل أدمعي ...
استمعت الى حديث عائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ وهي تمدح أم كلثوم وقد كانت تربطهما صداقة متينة ... لكنني طربت لقراءة ما كتبه الشيخ القرضاوي عن الشيخ محمد الغزالي وكيف انه أحيانا عندما يضيق به الحال ينتحي جانبا من بيته ويستمع لأم كلثوم في رائعتها الى عرفات الله، ويعرف أهله أنه قد دخل أجواءا روحانية فلا بزعجونه، وكان لا يتمالك من البكاء وهو يستمع لأم كلثوم تشدو تلك الرائعة.... وكيف به عندما تصل الى الأبيات التالية ؟ :
فيا رب هل تغني عن العبد حجة ### وفي العمر ما فيه من الهفوات
وتشهد ما آذيت نفسا ولم أضر ### ولم أبغ في جهري ولا خطراتي
ولا حُملت نفس هوى لبلادها ### كنفسي في فعلي وفي نفثاتي
وأنت ولي العفو فامح بناصع ### من الصفح ما سودت من صفحاتي
إذا زرت قبل البيت قبر محمد ### وقبلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت مع الدمع العيون مهابة ### لأحمد بين الستر والحجرات
فقل لرسول الله يا خير مرسل ### أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها ### كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة ### فما بالهم في حالك الظلمات
فقل رب وفق للعظائم أمتي ### وزين لها الأفعال والعزمات
أية مناجاة، وأي بوح، وأي شجن يداعب شغاف القلوب ويسمو بالروح مثل هذا الشعر الضاج والمتبتل في نفس الوقت يزيده رياض السنباطي سموا وفرادة بلحنه و تتمه أم كلثوم بصوت عذب قادم من السماء ....
أعلم أن الكثيرين تبكيهم أم كلثوم كما تطربهم وفيهم من يهيم بأغانيها المتنوعة .... لكنني - وأنا لست فنانا ولا ناقدا - أميل مع السنباطي، إلى أن أم كلثوم التي تطربني هي التي لحن لها السنباطي، وانتقت كلمات أغانيها من الشعر العربي الفصيح لعمالقته وفي مقدمتهم شوقي مع استثناء قليل كالقلب يعشق كل جميل لبيرم التونسي ....
لست أدري هل كان اختيارها واعيا تمام الوعي عندما عادت في أواخر الستينات وبالضبط 68 وغنت رائعة إقبال ورائعتها حديث الروح .... لقد كانت نوعا من الاستجابة لتحدي الهزيمة العربية.... ورغم انها اندمجت كمغنية في فضاء الحكم الديكتاتورية الناصري تماما كما فعلت مع الحكم الملكي، إلا أنها بعد الهزيمة شاركت صحوة الأمة، لتقول: أنه لا نجاة ولا نصر إلا بعودة الأمة الى روحها ... وشدت بصوت يوقظ كل ما حوله :
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ### ولا دنيا لمن لم يحي دينه
ومن رضي الحياة بغير دين ### فقد جعل الفناء لها قرينا
وهكذا كانت تلك التي كنت أعدها في بواكيري سبب هزيمتنا دينا ودنيا تقول بعد هزيمة حقيقية لأمة العرب - ولعلها تعترف - لا دنيا لمن لم يحي دينه ...
رحم الله أم كلثوم وأثابها بما قدمت من خير ... وعفا عنها ...