search

حوار القسومي ... الحدث!

التحقت بالحوار الذي أجراه الإعلامي عامر عياد مع الدكتور المولدي القسومي الأستاذ الجامعي والباحث في علم الاجتماع السياسي بعد انطلاقه وأكملت ما فاتني بعد ذلك ...

بداية علي أن أشكر الإعلامي عامر عياد، الذي قام بمهمته على أحسن وجه، من خلال كسر الحواجز الإسمنتية المسلحة، التي تفصل الفرقاء في الساحة، باستضافته لكاتب يساري، كان ينتمي لأكثر الفصائل عداء للإسلاميين. وكذلك من خلال ما أظهره من قدرة على إدارة الحوار، وكلنا يعلم أن نصف الجواب السؤال ... فأسئلة الإعلامي لها دور محوري في ضمان مخرجات نوعية للحوار ... والإعلامي عامر عياد يمتلك هذه القدرة، وقد ظهرت خلال حواره مع القسومي، مما جعل المحاوَر ينوه بها.

كما علي أن أنوه بشجاعة القسومي لقبوله إجراء الحوار مع قناة الزيتونة. وقد كان حواره ذاك ردا عمليا، على ما صرح به، من أنه ضد الاستثناء والإقصاء والاستئصال، وأنه ينطلق من مهمته كباحث مواطن في علم الاجتماع السياسي، وهو ما يقتضي منه بداهة الاستماع للجميع والحوار مع الجميع.

أكد القسومي على الاعتبارات الانسانية وعلى عنصر الصداقة في علاقاته وتحركاته، وهو أمر مفهوم وطبيعي، ومن المهم أخذه بعين الاعتبار، فكثير من علاقاتنا مبنية على هذا الأساس. وما يبدو غير منطقي في عوالم الإيديولوجية والسياسة، قد تستوعبه أو تخترقه العلاقات الانسانية البحتة. وكلنا يعلم أن كثيرا من الحروب والصراعات أخمدتها العلاقات الانسانية، أو على الأقل خفضت من تداعياتها.

بالنسبة لي على المستوى المضموني، كان الحوار مهما وجريئا وبادرة شجاعة تستحق كل التنويه والتشجيع، بل إنه يمكن أن يعلق عليها وعلى صاحبها أمل في المساهمة في تجاوز الاستقطاب الإيديولوجي الإقصائي، لتنضم إلى المساهمات التي سبقتها، والتي وإن كانت بطيئة وتعاني من المحاصرة، إلا أنها تتقدم وتتراكم بثبات ...

أن يلتحق القسومي - ابن الوطد - نشأة وقيادة لوقت ليس ببعيد ... ولكن أيضا القسومي المثقف والكاتب والباحث والأكاديمي، فهذه علامة مضيئة تستحق كل التشجيع، وتستحق الاحتفاء، وتستحق التغاضي عن الجزئيات أو الملاحظات الجانبية على كل المستويات النفسية والفكرية والعملية والتاريخية.

أنبه هنا إلى مراعاة استراتيجيات الخطاب عندما يوجه لجمهور متنوع، حيث يراعي صاحبه أن تكون رسائله تؤدي مفعولها. وقد تضطره قيود اللغة إلى أن تكون مراعاته للبعض على حساب البعض الاخر، لكن المتابع يستطيع وضع المضامين المرسلة في مواضعها، ويزيل التناقض البادي في الخطاب من خلال المسك بمفاصله الرئيسية وجمله الجامعة.

نأتي لصلب المحاور، وأولها النقد الذاتي لتجربة اليسار. لقد كان نقدا ذاتيا بينا ومهما وعلامة مضيئة جدا في الحوار. واضح جدا أن ذلك يتم من خلال مناضل سابق متحرر من قيود التنظيم، ولكنه نقد ذاتي لمثقف ممارس، يشعرك نقده الذاتي أنه كان وراء قراره الخروج من التنظيم الذي كان فيه، بل يشعرك أن انسحابه مباشرة بعد أربعينية شكري بلعيد، وثيق الارتباط بالحدث، وتداعياته في البيت اليسراوي وفي البلاد.

كنت آمل أن يستقبل الاسلاميون نقده الذاتي هذا باهتمام أكبر، وبتركيز أكبر، فذلك النقد الذاتي هو المقدمة التي بنى عليها مواقفه الأخرى.

بالنسبة لتقييمه للوضع السياسي عامة، منذ الثورة وحتى الوضع الراهن، ومن ضمنها قضايا الاستقطاب والتصادم والتنافي، موقف محمود وجريئ أيضا، ومشجع في جوانبه التحليلية وفي استشرافاته المستقبلية.

بالنسبة لموقفه من الإسلاميين وعلى رأسهم حركة النهضة، موقف إيجابي ومقبول وتحية تستحق الرد عليها بمثلها على الأقل إن لم يكن بأحسن منها.

علينا أن نتفهم حساسية المسألة بالنسبة لمناضل يساري، وإن تحرر منذ سنوات من ارتباطه الحزبي، إلا أن المؤثرات النفسية لا يمكن أن تمحى بين ليلة وضحاها، ولا القناعات العقائدية يمكن أن تتحول بسهولة، ولا قيم الرجولة تسمح له بأن يتحول سيفا مسلطا على رفاق بنى معهم حلما في سنوات ممتدة وعاش معهم الحلو والمر .

علينا أن نتفهم ذلك، فقبل أن يكون الانسان مفكرا أو باحثا عن الحقيقة وصارما في انتهاج الموضوعية، هو أيضا إنسان بكل ما تحمل كلمة الانسان من معاني.

من هذا المنطلق فإنني أتفهم ملاحظات القسومي النقدية حول الإسلاميين وحول النهضة، والإسلاميون يعرفون أن بعض ما لاحظه القسومي عبر عنه جزء من الإسلاميين بل وصدر في مراجعات رسمية لحركة النهضة. ولا يجب أن يخرج التنويه بنقص متابعته للتطورات في مجال المراجعات عن النطاق المقبول، الذي كان من الواجب وليس فقط المستحسن أن يكون مصحوبا على الأقل بالتنويه بالنقاط المضيئة جدا في حواره.

أعترف أنني كنت أتابع القسومي عرضيا من خلال مقتطفات لبعض حواراته، لكنني لم أقرأ له، رغم أن صديقي العجمي الوريمي فرج الله عنه، حدثني عنه، وذهبت معه ليقتني أحد كتبه من مكتبة المعرفة ببرشلونة. أحيانا تجعلنا سماحة العجمي الاستثنائية، نقلل من قيمة آرائه حول الناس، حيث أنه يوشك أن لا يذم أحدا، وحتى إذا ما أقدم على نقد أحد، فإنه يلتزم التزاما صارما بعدم الخلط بين نقد الرأي والمس من ذمة الشخص، ويشمل ذلك حتى خصومه الألداء.

كنت على وشك شراء نسخة من الكتاب لكنني عدلت ...

أعترف الآن أن صديقي العجمي كان أوسع مني نظرا، وطبعا لأنه أيضا أقرب مني للساحة وأكثر معرفة بالفاعلين فيها ...

يكفينا من الدكتور المولدي القسومي خروجه البين الصريح من عالم الايديولوجية الاقصائية الاستئصالية، ويكفينا أنه منفتح على الجميع، ويكفينا أنه باحث ومثقف عضوي بالمعنى الصحيح لذلك ... وكما قال هاشم صالح بحق "إن الربيع العربي لم يسبقه ربيع فكري" ... فعسى أن يكون القسومي ضمن كوكبة متنوعة من أهل الفكر الذي سيسدون هذه الثغرة، لتستأنف بهم الثورة دورتها، ولتكون العشرية التي مضت كأنما هي النسخة التجريبية من كتاب الثورة التونسية المجيدة.

تاريخ أول نشر 2025/6/2