search

حوار مع الصديق الحبيب بوعجيلة حول نصه " الأزمة الفكرية والقلق الوجودي"

تميز الأستاذ حبيب بوعجيلة بموقع متميز في الدفاع عن "الربيع المواطني" و"المقاومة" دفاع من يؤمن عميق الايمان بهما، باعتبارهما حقا مشروعا واستحقاقا وجوديا. لقد كان من أعلام "مواطنون ضد الانقلاب"، وربما شكل هو وجوهر بن مبارك شقي النواة، التي حركت ساحة خيمت عليها البهتة والصدمة والضياع ذات 18 سبتمبر 2021. بل كان المبادر لصياغة جملها السياسية المشحونة بطاقة معنى ضاع في المفردات السياسية الممجوجة لقوى الثورة قبل غيرها مع الأستاذين زهير إسماعيل والأمين بوعزيزي. ومن هنا لن يزايد أحد على إيمانه بالمطلب الديمقراطي بشقيه الحرية والكرامة. لكنه في ذات الوقت تمسك بموقفه المدافع الدفاع المستميت عن المقاومة. وهو يبدو عند الموازنة بين المطلبين: التحرر والتحرير، وترتيب الاولويات بينهما، أميل إلى اعتبار المقاومة (التحرير) هي الخط الاستراتيجي. أما النضال المواطني (التحرر) فهو مشروع ومطلوب بالقدر الذي يخدم الخيار الأستراتيجي أو على الأقل لا يعيقه.

لذلك عندما تقاطع المطلبان على أرض واحدة، لم يتردد في اعتبار أولوية "حاجة" المقاومة على "ضرورات" الربيع. كان ذلك في سوريا خاصة ثم العراق واليمن ولبنان. لم يتلعثم في ذلك بل أكاد أقول أنه لم يوازن. وقد وجد في "تقاطع" المصالح بين الأنظمة الرسمية التابعة للهيمنة الغربية ومحور الربيع وأصله أو جله تدخلا سافرا من دون تقاطع وإنما ضد محور الربيع ذاته، وجد في ذلك سندا لنقده الحاد أحيانا له. لم يجد حرجا في قبول تكتيكات محور المقاومة ولكنه رفضها رفضا شبه قاطع في محور الربيع.

لقد فضل أن ينطلق من "الربيع" لتتبع مواقف الطرفين وخياراتهما، وهذا وإن كان ممكنا، إلا أنه لا يقدم مادة تفسيرية كافية. فالزمن الربيعي ليس منقطعا عما قبله. فكلنا يعلم أن الفاعلين الرئيسيين في المحورين وهما : إيران من جهة والاخوان من جهة ثانية، لديهما علاقة حملت من المد والجزر قبل ذلك الكثير، ومن المفهوم أن يستصحبا إرث العلاقة تلك معهما.

كتب الكثيرون في هذا الموضوع، وربما ليس من المفيد إعادة سرد التاريخ، ولكن نكتفي بالملاحظات التالية:

- ناصر الاخوان الثورة في بواكيرها، ونستطيع أن نقول أنهم تغلبوا على إرث العلاقة الطائفية السيئة بين السنة والشيعة على مدار التاريخ. وقد ساعدهم على ذلك، التلاقح الذي نسج مبكرا في الخمسينات، حيث ضم تنظيم الاخوان في العراق الشيعة الى جانب السنة، قبل أن ينفصل حزب الدعوة. وحيث زار نواب صفوي الاخوان في مصر ورفعوه على الاكتاف، وحيث الاهتمام والتأثير لكتابات مفكري الاخوان ولا سيما سيد قطب، التي تخصص في ترجمتها المرشد الحالي لايران.

- لكن العلاقة ارتبكت ارتباكا شديدا مع "الثورة الاسلامية في سوريا" التي فجرها الاخوان في بداية الثمانينات، والتي رفضت إيران مد العون إليها. حيث برزت ضرورات دولة محاصرة، لا يمكن لها أن تفرط في علاقة مع دولة، في محيط من العداء المستحكم لها.

- "الجرح السوري الاخواني" العميق، زادته عمقا الحرب العراقية الايرانية التي استثمر فيها الخلاف الطائفي استثمارا بشعا، خاصة مع "ثورات الشيعة" في بلدان الخليج. تحركت المخابرات السعودية، التي احتضنت التيار السلفي الوهابي وصنعته على عينها منذ الثورة، وبدأ تأثيره يتمدد للتيار الإخواني.

أذكر أنه في مؤتمر الطلبة المسلمين في أمريكا شتاء 88، كنت واقفا مع الشيخ راشد وإذا بأحدهم يحمل كتابا عنوانه " وعاد المجوس"، فامتقع وجه الشيخ راشد ولم يكن حالي بأقل من حاله... فمن المعلوم أن الشيخ راشد قاد في بداية الثورة حملة كبيرة داخل التيار الاخواني للانتصار للثورة الإيرانية ودعمها، وتجاوز الصراع التقليدي المذهبي. وظل موقف الاتجاه الاسلامي في تونس مناصرا وداعما للثورة، بما فيها الموقف من الحرب الإيرانية العراقية. ومعلوم أن ملف اتهام النهضة سنة 1987 يحمل تهمة العلاقة مع إيران رغم خوائه من أي دليل.

- لكن الاخوان ناصروا وفرحوا بنجاح حزب الله في حرب بيروت 2006، برغم الموقف الايراني من التدخل الأمريكي في العراق، وتنسيقها المباشر والموضوعي عن طريق الأحزاب الشيعية العراقية مع أمريكا. وبرغم رفض حزب الله تمكين الفصيل الجهادي السني في لبنان من الانخراط في المعركة وفق الترتيبات التي كانت تفرضها سوريا.

- ورغم المحاولات التي قادها القرضاوي للتقريب مع النظام السوري ومع الشيعة فقد وسع الصراع في العراق الهوة وزاد مرارة الخلاف.

- فتح الربيع العربي أفقا للعلاقة، لكن الثورة السورية جعلت الفريقين يستصحبان تاريخا ملتبسا لم تفلح فيه محاولات الاصلاح، و بدا السير متعاكسا، حتى وجد الفريقين نفسيهما وجها لوجه في معركة اعتبرت من الطرفين معركة وجود.

نص الأستاذ حبيب بوعجيلة الذي ينتقي كلماته وجمله بعناية شديدة، يبدو منحازا بدون مواربة لمحور المقاومة، ذلك الانحياز الذي جعله قادرا على تحميل جل المسؤولية ان لم يكن كلها لمحور الربيع. لكن الآلية أو المنطق الذي استعمله هو نفسه الذي استعمله أنصار محور الربيع.

لا يمكن أن تلوم الاخوان على تكتيكاتهم التي لم يتورع محور المقاومة عن ممارستها كلها بدون استثناء. إلا أن تقول ما يحق لمحور المقاومة لا يحق لمحور الربيع. وهذا يمكن تفهمه في إطار اعتبار استراتيجيا المقاومة هي الأولى. وهذا يبقى اختلافا في وجهة النظر أو زاوية النظر بصورة أدق.

هناك معطى بالغ الأهمية في المعادلة، حيث المحور الشيعي تقف وراءه وقوفا كاملا وعلنيا دولة إقليمية لا يستهان بقوتها ولا بإرثها، في حين لا يملك المحور الآخر سوى تعاطفا وربما مساعدة محدودة جدا على مستوى العلاقة بالدول. بل يشهد تضييقا خانقا وصل إلى حد وضعه على قوائم الإرهاب بما في ذلك فصيله المقاوم على أرض فلسطين.

بقي أن أشير إلى أن الانتحاء باللائمة على تأثر الاخوان بالخط والخطاب السلفي الوهابي التكفيري فيه تقليل من سطوة الخطاب التكفيري العقائدي والسياسي الشيعي الذي يوجه المحور الشيعي.

سيضل التاريخ حاضرا بقوة فينا يمارس سطوته على قلوبنا وعقولنا. وكيفية التعامل معه وتجنب إعاقاته لنا، يحتاج نخبة تعيد قراءته إيديولوجيا، من أجل التخفيف من منسوبه السلبي ليكون عونا لنا على المستقبل.

لا أختلف مع الأستاذ حبيب بوعجيلة في أولوية المقاومة خاصة الآن. والمقاومة ذاتها تعطينا درسا حاليا في أنها متضامنة بشقيها الاخواني والشيعي. وجراح الطرفين النازفة قد تدملها المقاومة خاصة إذا استمرت في صمودها ونجاحاتها. عندئذ يتحول ما حصل بين الطرفين إلى اعتباره "قتال فتنة" على رأي الفقهاء وما أكثره في تاريخنا، وليس قتال كفر وإيمان وقتال معتد ومعتدى عليه.

تاريخ أول نشر 2023/10/26