search

حوار مع الصديق نورالدين الغيلوفي حول الحاجة لليسار في تونس

كتب الصديق نورالدين الغيلوفي مقالا تحت عنوان: هل تحتاج تونس إلى يسار؟

وقد كتب المقال من زاوية نظر طريفة، اعتمد فيها على الانطلاق من التسمية: يسار، ومقابلها: يمين. والمحصلة من هذه الزاوية، أن اليسار هو في حقيقته الراهنة يمين، بل موظف في خدمة اليمين. ومن هنا لم يعد هناك جدوى لوجوده.

هذه الزاوية لها ما يصدقها واقعا، وقد تصدق على الطيف الواسع من اليسار ... غير أنها من وجهة نظري لا تشمل اليسار كله ... فبرغم أن الأصوات المرتفعة لليسار ومكوناته السياسية الفاعلة على الساحة، تندرج موضوعيا ضمن ما ذكره الصديق، إلا أن الساحة لم تعدم يسارا مازال وفيا لطروحاته، التي تعتبر في جزء منها استجابة لحاجة المجتمع التونسي، وصدى لمطالبه في الكرامة والعدالة الاجتماعية. وبرغم أن الاستقطاب الحاد الذي فرضه اليسار الاستئصالي مع التيار الاسلامي لا زال على أشده، إلا أن الساحة لم تعدم يسارا مناضلا وصلبا، فرق بين اختلاف القناعات والبرامج، وحتمية الالتقاء حول مطلب الحرية والديمقراطية، ورفض الاستثناء والاقصاء والاستئصال، و مقاومة الانقلاب على الدستور والقانون وعلى مكاسب عشرية الثورة.

نعم هناك يسار وطني محاصر من اليسار الوظيفي ويسار الاستئصال ويسار الانقلاب، لكنه يعاني أيضا من التعميم الذي يصدره أبناء التيار الاسلامي، و من عدم تقدير الضغوط التي تمارس عليه، وربما تعرقل خطواته للقيام بالدور المطلوب في صفوف التيار اليساري، لمواجهة النزعات الاقصائية وإحداث ثقوب في جدار الإيديولوجية الإقصائية السميك.

وكما أنحيت باللائمة على حركة النهضة التي لم تبذل جهدا كبيرا في محاصرة تفتت الحزبين الذين شكلت معهما الترويكا، فخسرنا سريعا تجربة مهمة وواعدة في كسر الاستقطاب الحاد الذي نشأ حتى قبل انتخابات 23 أكتوبر، فإنني أؤكد على النقد الذاتي الذي قام به الشيخ راشد الغنوشي، حيث قال أنهم لم يبذلوا الجهد الكافي بعد الانتخابات من أجل ضم أكثر ما يمكن من قوى الثورة ولا سيما من الجبهة الشعبية لحكومة وحدة وطنية. كما أن بعض القرارات المتعجلة نتجت عنها أحداث زادت من الشرخ وأوسعت من الخرق وجعلت الرتق متعذرا.

ومن أجل تعميق الحوار حول الموضوع، أطرقه من زاوية أخرى تبدو لي مهمة، وفيها استشراف بمعنى ما للمستقبل بروح إيجابية، أحرص عليها في كتاباتي، في هذا الواقع الذي نبحث فيه عن نقاط الضوء حتى ولو كانت شمعة في نهاية طريق ضيق ومظلم.

هناك تقسيم للتيارات السياسية يمكن اختزاله في العناوين التالية كنقاط ارتكاز :

فالتيار اليساري هو تيار العدالة الاجتماعية،

والتيار الليبرالي هو تيار الحرية،

والتيار الاسلامي هو تيار الهوية،

والتيار القومي هو تيار الوحدة العربية ...

كل هذه التيارات، باستثناء التيار الليبرالي الذي نشأ في حضن الدولة، وإن انشق بعض رموزه عن حزبها الحاكم، كانت تيارات تتبنى القطيعة السياسية والتنظيمية مع الدولة، والتغيير الثوري الجماهيري أو الانقلابي، وتؤمن بالعنف الثوري سبيلا للتغيير (الاسلاميون يعتمدون مصطلح الجهاد).

بعد سقوط جدار برلين، وهزيمة القطب الشيوعي/الاشتراكي، حدثت انزياحات نظرية وعملية شملت جميع التيارات. وتم مع هيمنة القطب الليبرالي/الرأسمالي صياغة مقاربات نظرية ومسارات عملية قطعت شيئا فشيئا مع مفهومي القطيعة والعنف الثوري، ليدخل الجميع في جحر الضب ( الدولة بحزبها الحاكم).

وقد شهدت لحظة الانتقال بين المرحلتين "سيطرة" التيار الاسلامي على ساحة المعارضة، باعتباره التيار الأخير الذي استبدل به المجتمع والفئة الشبابية خاصة هزائم التيارات التي سبقته في صراعها مع الدولة، وفي نفس الوقت استجابت بقية التيارات لاستراتيجية القطب الواحد في الاندماج عوض القطيعة، وقد زاد من إغراء ذلك شبح التيار الإسلامي الذي بدا هديره أقوى من مقاومته بالقدرات الذاتية التقليدية لتلك التيارات. والتقى ذلك مع رغبة الدولة في الاستعانة بتلك التيارات على ضخ دماء جديدة شابة على جهازي الحزب والدولة، خاصة وأن تلك التيارات معبأة عقائديا ضد التيار الاسلامي.

وهكذا التقت الرغبتين و الذكائين في استعمال كل منهما الآخر ... لكن اللوفياتان (الدولة) كان أكبر من أن يُغلب، فحولهم إلى وظيفيين، ورضوا من الغنيمة باستثناء أو إقصاء أو استئصال التيار الاسلامي. فأي مستوى من مستويات المقاومة للتيار الاسلامي تلك، تعتبر بالنسبة لهم غنيمة!

وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم سلوك التيارات جميعها، بما فيها التيار الليبرالي ذو التوجه العلماني اليعقوبي، خلال عشرية الثورة وحتى بعد انقلاب 25 جويلية الدائم على حد تعبير عياض بن عاشور.

ورغم أن الدولة أدارت الظهر لتلك التيارات، وحاصرت نزوعاتها التي كانت تحلم بتمريرها من خلال وجودهم داخل الدولة، باستثناء نزعة العداء للتيار الاسلامي، وأذاقتهم من كأس تسلطها ألوانا، إلا أن ذلك لم يستطع التغلب على أولوية مقاومة التيار الاسلامي عندها على مقاومة تسلط الدولة.

ورغم المحاولات التي قطعت في اتجاه تجسير الفجوة بينهم وبين التيار الاسلامي، وخاصة من خلال مبادرة 18 أكتوبر وحكومة الترويكا، إلا أن ذلك لم يغير الوضع إلا قليلا، وكانت لحظة 25 جويلية كاشفة فاضحة.

لا جدال أن الفجوة بقيت واسعة والأخدود لا زال عميقا. وبدا أن الانقلاب بكل ما جاء به من قتل لأحلامهم ونزوعاتهم في التغيير الإيجابي الذي يحقق رؤاهم وبدائلهم في الديمقراطية والتنمية والاستقلال، أرحم بالنسبة لهم من أن يلتقوا مع تيار يعتبرون مجرد وجوده خارج القبور والسجون خطرا على وجودهم!

لكن مع هذه الصورة السلبية التي تلتقي مع زاوية النظر التي عرضها الصديق نورالدين الغيلوفي، هل يجعلنا ننفض أيدينا من تلك التيارات؟ وأن نعتبر أنها شر كلها؟ ولا يرجى منها خير؟

هنا علينا أن نعود إلى شيئ من التدقيق والخروج عن التعميم، الذي يختزل الظواهر الاجتماعية والسياسية المعقدة بشكل مشط، ويذهب بالرؤية الفاحصة والمتوازنة للظواهر المركبة والمعقدة.

عندما نتحدث عن هذه التيارات، فإننا نتحدث عن ظواهر اجتماعية وثقافية، وليس مجرد أحزاب أو تشكيلات سياسية تتنافس على الحكم أو تتنافس في المعارضة. كما أننا نتحدث عن ظواهر تاريخية لها ماض حاضر وأحيانا جاثم على حاضرها بل ومستقبلها. نحن نتحدث عن ظواهر إنسانية، تحمل في أحشائها ما تحمله النفس الانسانية فردا كان أو مجموعة أو مجتمعا، وتشكل مع الزمن تاريخها ومخيالها الذي صيغ من خلال تمثلاتها ونشاطاتها ونضالاتها، من خلال الحلم الجميل والعمل في مناخات التحدي والصراع، من خلال الملاحقات والايقافات والمحاكمات والسجون والمنافي. نتحدث عن ظواهر إنسانية تشكلت مع فترة الشباب الغض التي حددت مصائرهم. ربما تخدعنا انزلاقات الكثير من قياداتهم ورموزهم، لكن التيار بمكوناته الواسعة يبقى حاضرا، ولا ينزاح بسهولة مع "انزلاقات" النخبة و"خيانتها".

لذلك فإن هذه التيارات في نزوعاتها الكبرى وتمظهراتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية باقية وستبقى، لأنها حاجة إنسانية وحاجة وطنية، لبلد لا زال يبحث عن استقلاله وحريته وتنميته.

وهي ككل الظواهر الاجتماعية يمكن أن تندمج، بفعل التحولات العميقة في بنية المجتمع، في تشكيلات اجتماعية جديدة. وهذا ما نلاحظه، حيث تبدو إرهاصات تشكل تيارات جديدة تستوعب التيارات القديمة، وفق عمليات معقدة من "الترحال" بين التيارات جميعها. ذلك أن الأطياف التي تتشكل منها تلك التيارات تمثل في جزء منها صدى للتيارت الأربعة في ما بينها. ففي كل تيار تقريبا صدى للتيارات الأخرى، قد تدفعه التحولات الاجتماعية إلى أن يجد نفسه في التيارات التي كان صدى لها، إذا شهدت تلك التيارات تحولا في بنياتها يجد نفسه فيه. هنا نحن لسنا نتحدث عن الأفراد ولا حتى عن المجموعات، وإنما نتحدث عن المخزون النفسي ومكوناته في عوالم الفكرة والمخيال والذاكرة الجماعية وما حفرته الوقائع والمكابدات و"الارتطامات" القيمية .

يبدو المجتمع مقبلا على إعادة تشكل للتيارات في خارطة جديدة قائمة على عمليات معقدة من الفصل والوصل.

هناك تيار جديد بدأت ملامحه الجنينية تبرز في الخطاب السياسي وأقل منه في الخطاب الفكري وهو تيار المحافظة. وقد سبقه في الواقع وبأسماء لا زالت تحمل شحنات من ماضي التيارت وصراعاتها وحزازاتها، تيار يمكن أن نطلق عليه التيار المدني/ الديمقراطي. ومن البين أن هذا التيار هو أقرب للروح الليبرالية في أفقها المجتمعي الاقتصادي، مما يجعل التيارين اليساري والقومي لا يتمثلان فيه إلا بالمعنى الوظيفي، لا بل إن هذا التيار يمكن أن نقول أنه يتغذى من الموارد البشرية للتيار اليساري، الذي ضل طريقه عندما حصر وظيفته في مقاومة التيار الاسلامي عوضا عن التمكين لنفسه.

وما لم يغير التياران اليساري والقومي أولوياتهما واستراتجيتهما، فإنهما "سيستقران" في شكل نزوعات جانبية طرفية داخل التيار المدني/الديمقراطي، لكن روح مشروعيهما ستجد ذاتها في التيار المحافظ. فهو الأقدر إذا ما أقام داخله بعمليات تغيير عميقة، وعرف كيف يفلت من النزوع الليبرالي الذي أوشك أن يستولي على المكون السياسي الأبرز للتيار الاسلامي (حزب حركة النهضة).

تاريخ أول نشر 2025/6/1