بمجرد انتهاء حرب كوسوفا وانسحاب الجيش الصربي منها سنة 99 كنت من أوائل الداخلين لها في إطار عمل إغاثي.
أقمت بمدينة جاكوفا وهي إحدى المدن المحاذية لأابانيا 15 يوما. شاهدت الدمار الهائل الذي أحدثته الآلة الصربية الوحشية، حيث دمرت مساكن ومساجد والسوق المركزي. كما شهدت المدينة عمليات إعدام وحشية وعمليات اختطاف كبيرة. لكنني ذهلت من حجم الهدوء الذي يخيم على وجوه أهلها !
وقد كان أشد ما أذهلني، هو أنني وجدت الناس يتعاملون بهدوء تام مع العملة الصربية التي ورثوها من الحكم الصربي لأرضهم ... يبدو ذهولي من زاوية لا معنى له . فبأي عملة سيتعامل الناس؟ لكنني تصورت الناس سيثورون على كل شيئ له صلة بصربيا مهما كانت ضرورته. وتصورت لو أن الصرب كانوا مكان الألبان، هل كانوا سيقبلون ذلك؟ أجزم أنهم لن يقبوا ذلك ولو ماتوا جوعا. وقد تابعت بعد الحرب وحتى يوم الناس هذا حجم الحقد الذي لديهم، والاصرار على عدم قبول التنازل عن صلفهم، واستعدادهم الدائم للانتقام. وما الأحداث الأخيرة التي كادت تفجر الوضع في البلقان عنا ببعيد. ولا زال الوضع قابلا للانفجار ولم يؤخره إلا أحداث غزة.
خلال أيام إقامتي في جاكوفا رأيت في أحد الأيام صفا طويلا جدا يسير فيه الناس مثنى مثنى، فسألت مرافقي عنه، فقال لي أنها مظاهرة تطالب بالكشف عن مصير المختطفين وتطلب بإرجاعهم. فازداد ذهولي من هذا الشعب وهذا السلوك "الحضاري" أمام وحشية تماثل وحشية اليهود في فلسطين.
لكن الذهول بلغ مداه عندما زرت في أحد الأماسي الجميلة مدينة بريزران، التي لا تبعد عن جاكوفا كثيرا. وجدت الناس وكأن الحرب لم تمر من هناك، مع أن حجم الدمار الماثل في الشوارع والأحياء لا زال على حاله، والأيامى والثكالى في كل منعطف، والمفقودين على كل لسان. وجدت الناس وقد خرجوا من بيوتهم، وملؤا المقاهي، والشباب يقطعون شوارع المدينة ويقفون على جسرها الجميل يتبادلون التحايا والهمسات.
ولم تختلف العاصمة بريشتينا عن المدينتين في ما لاحظت.
وكانت حواراتي مع الناس منصبة على هذه الصور التي شاهدتها.
الخلاصة التي استخلصتها وكنت ولا زلت أرددها : أن هذا السلوك مأتاه تغلغل روح الاسلام في نفوس الناس. الاسلام هو الوحيد الذي روض الشعب الالباني الجبلي الشرس، الذي لا يقل شراسة عن الصرب عند الدفاع عن حقه وعن أرضه، ولكنه في ما عدا ذلك يفيض إنسانية ورحمة.
والتاريخ يشهد، في كل مكان واجه فيه المسلمون أعداءهم لم يتجاوز دفاعهم تحرير أرضهم وعرضهم. لقد كانوا دائما الأسرع للصفح والتجاوز والمغفرة .
المقاومة "بنت" الشعب الفلسطيني المسلم، الذي تعلم من اسلامه أخلاق الحرب وأحكامها. لذلك فلا غرابة أن يعاملوا أسراهم بأحكام الاسلام مع الأسرى ... ولا غرو أن يكون بينهم وبين أسراهم ود كما رأيناه.
ولو كان لليهود أخلاقا وقيما دنيا، لأجازوا لأنفسهم التعامل بقسوة مع كل الشعوب، إلا الشعوب الإسلامية التي وصلوا في عهد خلافتها أعلى المناصب، وآوتهم حين أطردهم وطاردهم الجميع.
تاريخ أول نشر 2023/11/30