دائما لا أنظر بارتباح لكل التصريحات والاتهامات والمحاكمات التي تبدو في ظاهرها موغلة في العبث والسخافة، وتعكس حالة خبل وضعف وبلاهة للحاكم بأمره واعوانه.
لا ارتاح لذلك أبدأ، وأرى أنها مقصودة، ووراءها عقل خبيث شيطاني، يعرف ما يفعل. وهي ليست افكار واقتراحات جهلة وأنصاف متعلمين، وإنما هي خبرة عقول كبيرة، متخصصة في مجالات علم النفس وعلم الاحتماع وغيرها من فروع العلوم الإنسانية، التي تعتبر أجهزة الانظمة القمعية والتسلطية أكثر من استفاد منها وعمل على تطويرها.
وحين يغرق الناس في مستنقع الكوميديا السوداء، وهم يأكلون اوقاتهم وعقولهم وقلوبهم وعواطفهم وراء محاكمة الغنوشي على تبرعه للهلال الأحمر بجائزة غاندي، وحين يشتعل الفيسبوك وراء حفرة مايا، وحين تمتلئ الصفحات تعلق على تصريح الغشير على ارتفاع سعر البطاطا إذا أغلق المجمع الكيميائي، وحين "يتسلى" المثقفون بأخطاء ليلى في الرسم والاعراب ... حين يحصل كل ذلك فقد تحقق للانقلاب ولمن وراءه ما يريدون ...
حين يجرك الانقلاب الى ملاحقة العبث والجري وراء اللامعقول، فقد نجح في صرفك عن المعقول ... وهذا هو المطلوب ...
وهذا ليس فعل عابث ولا جاهل ... وإنما هو تخطيط ماكر ممن يعرف كيف يتلاعب بالعقول، وكيف يحول معارضيه الى "جموع" و"حشود" يقودها حيث أراد ...
إن دراسة علمية لخطاب معارضي الانقلاب، أفرادا وجماعات وجمهورا، يستطيع بجلاء ان يستنتج كيف تحولت كلها إلى كائنات يديرها ويطوعها ويتحكم في انفعالاتها الانقلاب .... الانقلاب الذي هو بالتأكيد ليس لا قيسا، ولا من يبدو انه يوظفهم ... وكثير من "بلاهة" قيس ومن معه، تاتي ضمن ذلك التخطيط الواعي. وحتى وإن لم نعثر على فاعلين يجلسون في مكاتب خلفية ومغلقة، وامامهم شاشة كبرى يراقبون من خلالها ما يحدث، ويضعون الخطط، ويصدرون القرارات، فإن "قوانينالمؤسسة" و"قوانين النظام" بالمعنى السوسيولوجي تنتج ذلك تلقائيا ....
إن اعقد مرحلة في مواجهة الانقلاب هي هاته المرحلة: حين يمارس قمعه وفساده ويغرقك انت في الكوميديا السوداء ....
تبدو هذه الصورة جديدة نوعا ما في تونس ولكنها اكثر جلاء في مصر ... حاول الانقلاب في البداية استنساخ الكاتالوج المصري ولكن التونسيين لم يتقبلوه، فتراجعت غرفة التحكم والسيطرة، واختارت طريقة "الري قطرة قطرة" وهي بذلك تنجز ما تريد، وتمارس عملية تغيير في "نفسية الشعب وثقافته" يصعب اجتثاثها.
تاريخ أول نشر 2025/11/16
