لا يشكل خطاب قيس سعيد الذي ألقاه اليوم الاربعاء 23/10/2019 ، بعد أدائه القسم أمام مجلس نواب الشعب، استثناءا عما عهدناه عنه من حيث لغته المليئة بالتوصيفات البلاغية، التي تميل إلى الإطلاق والمبالغة، مما يحسن تجنبه في المستقبل. فبقدر ما أن "جفاف اللغة" غير محمود، وهو ما تميل إليه الخطابات الرسمية التقليدية، بنفس القدر فإن خطابات المجازات والمبالغات وخاصة التي تتكرر بكثرة لافتة ليست محمودة ( شخصيا حفظت هذه التوصيفات وأحيانا أنطقها قبل أن ينطقها هو ).
بدأ خطابه تمجيدا للثورة التونسية ولتونس والتونسيين "الذين أذهلوا العالم "، كما عرف الثورة تعريفا مهما من حيث أنها على غير منوال سبق وأنها "ثورة حقيقية بأدوات الشرعية " وهي "ثورة ثقافية" لأنها تعبير عن وعي الشعب وإرادته بتغيير مسار التاريخ.
ثم تحدث عن الأمانات التي يحملها على عاتقه ويدعو الجميع إلى حملها :
أولها أمانة الاستجابة لإرادة هذا الشعب في الحرية والكرامة "فقد طال الانتظار"، وكله استعداد للعبور من ضفة الإحباط إلى ضفة البناء والعمل، ومن "دولة القانون إلى مجتمع القانون".
ثانيها الحفاظ على الدولة التونسية واستمراريتها بكل مرافقها، التي هي خارج حسابات السياسة. و"حياد مرافق الدولة" مبدأ يجب على الجميع احترامه. وهي إشارة لا تخطئها العين ورسالة لمن تعنيه.
ثالثها الحفاظ على مكتسبات المجموعة وثرواتها "إذ لا مجال للتسامح في أي مليم واحد من عرق هذا الشعب العظيم ".
رابعها أمانة التصدي للإرهاب و"كل رصاصة ستقابل بوابل من الرصاص".
ثم انتقل في حديثه إلى توجيه رسائل :
1- لا مجال لأي عمل خارج إطار القانون: وهي مرتبطة بأمانة الحفاظ على الدولة ومرافقها، وبأمانة الحفاظ على مكتسبات الدولة وثرواتها. وهو هنا يتكلم باعتباره مسئولا عن الأمن القومي ورئيسا لمجلسه. وهي رسالة صريحة وقوية في نفس الوقت.
2- لن يقدر أحد على سلب الحرية التي اكتسبها التونسيون " ومن كان يهزه الحنين للعودة للوراء فهو يلهث وراء السراب و ضد مجرى التاريخ ": وهي رسالة واضحة وموجهة للأحزاب والقوى التي تريد استعادة عهد الاستبداد والفساد.
3- لا مجال للمساس بحقوق المرأة : وهي رسالة تطمين ووضع حد للتخوفات التي صدرت بعد موقفه من موضوع الإرث.
4- "شعبنا يتطلع إلى العدل فقد ضاقت الصدور من الظلم وقد آن الأوان لتصور سبل جديدة لتحقيق الشغل والحرية والكرامة الوطنية": وارتباط العدل بالظلم هنا يحيل أساسا إلى مواجهة الحيف الاجتماعي والجهوي من أجل عدالة اجتماعية حقيقية.
5- "المنظمات الوطنية يمكن أن تكون قوة اقتراح": وهي رسالة للمنظمات وخاصة للاتحاد العام التونسي للشغل كي يكون أكثر إيجابية مع الدولة وأن يتعاطى مع مبادرات الدولة بروح بناءة.
6- "ملتزمون بكل المعاهدات وإن كان من حقنا المطالبة بتطويرها في الاتجاه الذي يراعي مصالح شعبنا ومصالح كل الأطراف": وهي نقطة فارقة في الخطاب من حيث أنها أول مرة تصدر في خطاب رسمي. وتعتبر نقطة تحول في الخطاب السياسي للدولة .
7- "امتدادنا الطبيعي مع أشقائنا في المغرب العربي وإفريقيا وفي الوطن العربي وأصدقائنا شمال المتوسط": نلاحظ غياب ذكر الأمة الإسلامية . كانت الخطابات الرسمية منذ عهد بورقيبة تستعمل غالبا صيغة " الأمتين العربية والإسلامية". هنا غابت كلمة الأمة واستبدلت بالوطن كما غابت الإسلامية!
8- "تونس منتصرة لكل القضايا العادلة وأولها قضية شعبنا في فلسطين والحق الفلسطيني لن يسقط بالتقادم ولن تغيره القوة أو الصفقات" : وهي أيضا نقطة فارقة ثانية في نبرتها وحتى في وضوحها وخاصة عند الحديث عن "الصفقات"، والطريف والغريب أنها لم تقابل بتصفيق حتى من أولائك الذين "يطربون" لهذا الخطاب. إذ يبدو أن الجميع "تحسس" منها ووجدها خارج قاموس الخطاب السياسي الرسمي الذي لم تستطع تجاوزه حكومات ما بعد الثورة.
9- "نتطلع إلى عالم جديد وإلى المساهمة في صناعة تاريخ جديد يغلب فيه البعد الإنساني على سائر الأبعاد الأخرى": وهي رسالة مفعمة بالأمل، وترنو إلى أخلقة العلاقات الدولية التي لا تعترف إلا بمنطق القوة والمصالح المادية المباشرة.
وختم بالتذكير بمسؤولية رئيس الدولة الذي هو "رمز وحدتها، ضامنا لاستقلاليتها، واستمراريتها، وساهرا على احترم دستورها، وجامعا للجميع، وفوق كل الصراعات الظرفية والضيقة". وهو تأكيد على أنه سيتحرك في إطار مسؤوليته الدستورية، وإبعاد لشبهة "التمرد" على الدستور والقانون التي كانت مصدر الخشية الكبير من الرئيس خلال الدور الأول و بعيد انتصاره. وقد ظهر جليا أنه عمل طيلة المدة التي كانت بين الدورين على إزالتها، من خلال تغيير مضمون الخطاب، ورفع اللبس عن بعض مضامينه الغامضة، ومن خلال اللقاءات التي أجراها هنا وهناك.
لقد كان خطاب نوايا، حاول فيه أن يقارب الخطاب التقليدي الرسمي للدولة، و دون أن يتماهى معه، وخاصة في موضع المعاهدات والثروات والقضية الفلسطينية. لكنه بتأكيده المتكرر على استمرارية الدولة والتزامه بالدستور والقانون، وتأكيده على أن من خصائص الثورة التونسية المتفردة أنها "ثورة تغييرية بأدوات الدولة"، وضع حدا للهلع الذي أصاب الكثيرين من برنامجه السياسي القائم على الديمقراطية المباشرة، وبصيغة ذكرت باللجان الشعبية وبالسوفياتات. لقد أعرض حتى عن عرض الخطوط العامة لمشروعه السياسي الذي على أساسه جمع حوله الشباب الذي تحمس له وجمع التزكيات له وأدار حملته الانتخابية.
تبدو فكرة " الثورة التغييرية بأدوات الدولة "، والتشديد على مبدأ استمرارية الدولة، أولى " حبال" الدولة التي ستلتف حول مشروع قيس سعيد لتخضعه وتروضه ، وقد بدأ ذلك من خلال التغيير المتسارع في خطاب سعيد من بعد نتيجة الدور الأول.
وهكذا ستعمل الدولة بحيلها و أساليبها الناعمة، على تحويل شعار "الشعب يريد" إلى "الدولة تريد".
في الحقيقة لم يكن غائبا عنا منذ البداية العمومية التي صبغت مشروع قيس سعيد السياسي، والذي برغم ما أتيح له من فرص شرحه وتوضيحه، إلا أنه حافظ على عرض نفس الأفكار وكأنه يحفظها عن ظهر قلب لا يزيد عنها حرفا واحدا و لا يثريها بغير الأمثلة التي تعود ذكرها.
تبدو شخصية رجل القانون والقانون الدستوري واضحة جلية في خطابه وكلما اقترب من الدولة كلما هيمنت شخصيته تلك على نزوعاته الأخرى في التغيير و"قلب هرم السلطة" الذي كان يبشر به في وثوقية تامة.
ظهر منطق الدولة وحساباتها أيضا في اختفاء الدعوة لمحاربة الفساد، وهي الرسالة الأساسية التي ترجمها الشعب من خلال الانتخابات، إلى تصويت حازم ضده، بل ومعاقبة من تهاون في محاربته. وقد عوض سعيد ذلك بالحديث عن العدل، مركزا على الظلم الذي يعانيه الشعب، غافلا عن التأكيد على الظلم الذي يمارسه ناهبو ثروات البلد ومصاصو عرق الكادحين والمتحايلون على خزينة الدولة.
من هنا تأتي أيضا "سذاجة" المقترح المقدم خلال خطابه بأن يتبرع التونسيون بيوم عمل من كل شهر طيلة خمس سنوات " لتفيض " خزائن الدولة ونستغني عن القروض ! وهو مقترح بعيد عن النظر العميق للمشكلة الاقتصادية، وحتى للعدالة الاجتماعية التي نادى بها في خطابه. تمنيت لو أنه لم يتقدم بهذا المقترح في هذا الخطاب الافتتاحي، وقد كان يسعه طرح مبادرات أكثر قوة ومشروعية وأكثر تكاملا، لا تغفل عن أموال المجموعة الوطنية المنهوبة من كبار التجار ورجال الأعمال، والنفقات والامتيازات المجحفة في مؤسسات الدولة ومن كبار موظفيها، وغيرها من مجالات الهدر والنهب، وليس الاقتصار على الأخذ من جيوب عامة الشعب الخاوية.
تاريخ أول نشر 2019/10/23