لك أن تقول أنه منذ أول مواجهة بين الفلسطينيين والصهاينة حدثت متغيرات كثيرة، فحوالي قرن من المواجهة من الطبيعي أن تحدث فيه متغيرات، بحسب تغير الظروف والتطورات، وتعاقب الأجيال والسياسات والاستراتيجيات التي اعتمدتها القوى العظمى والقوى الإقليمية.
لكن شيئا واحدا لم يتغير جوهره وإن تنوعت أساليبه وطرق إخراجه ألا وهو الخيانة. خيانة الحكام العرب والمسلمين للقضية وتلاعبهم بها وركوبهم عليها واستغلالها سواء لشراء ود شعوبهم وتخديرهم أو لقمع شعوبهم وكتم أنفاسهم.
منذ الأيام الأولى للطوفان، قدرت أن السيناريو الأنسب الذي سيعتمده العدو، هو أن يٌسلم المقاومة وغزة للحكومات العربية. وهي ستكون قادرة على تحقيق أهدافهم في التصدي لها. لكن يبدو أن الحكام العرب، وخاصة الدول المعنية مباشرة بالقضية، قدرت أنها لن تكون قادرة بما فيه الكفاية للتصدي للمقاومة، وأنها لا تأمن انقلاب شعوبها عليها. لذلك رجت من العدو أن يقوم بالقضاء على المقاومة مقابل أن يقدموا هم كل العون المطلوب ماديا ولوجستيا واستخبارتيا، إلى جانب القيام بالدور المركزي في قطع كل شرايين الإمداد المادي والمعنوي للمقاومة، وإحكام الحصار عليها وعلى القطاع ولو أدى ذلك إلى أن تمتد الإبادة لغزة وكل ما عليها من بشر وحيوانات وشجر وحجر.
كل ذلك قد حصل بكل صوره المرعبة، ولم تكلف تلك الدول نفسها ممارسة أي نوع من أنواع الضغط على الكيان حتى الديبلوماسي منه، وإنما اضطر بعضهم تحت خوف انفلات الأمور لديه وخوف افتضاح تواطئه المباشر أو غير المباشر إلى القيام ببعض الإجراءات وأغلبها تأتي في خانة التصريحات ودون أي إجراءات عملية.
لكن الخيانة تبلغ أوجها من خلال الدعم أو التواطئ أو الصمت تجاه أخطر مخطط لم تكن عملية الإبادة في غزة إلا مقدمة له ألا وهو التهجير.
لم يكن موضوع التهجير مخططا طارئا، تم التفكير فيه والاعداد له بعد 7 أكتوبر. ولم يكن ذلك بالتأكيد بعد إعلان رغبة ترامب بجعل غزة ريفييرا. أبدا لم يفعل ترامب إلا الإعلان عن مخطط تم الإعداد له ووضعت سيناريوهاته منذ عشرات السنين، وجرى تجهيز البدائل له. ومن هنا فالنظام المصري شريك في تنفيذ المخطط منذ انقلاب السيسي، وكل ما تم القيام به في سيناء من تهجير قبائلها وبناء مساكن فيها وإحكام الجدار العازل بينها وبين غزة إلا إعدادا مسبقا لتهجير الفلسطينيين. وكل ما يعلنه نظام السيسي من رفض للتهجير، لا يعدو أن يكون مجرد خداع، كي يتم بلع الطعم شيئا فشيئا من خلال تطورات الأحداث وتشابكها وتعقيداتها، حتى يكون الجميع في لحظة حاسمة درامية يستولي فيها على الجميع حال التعامل مع الوضع المأساوي للمهجرين ويشتغل فيها إعلام العهر والخيانة على التلاعب بالعقول لتمرير الخيانة.
بقية الدول العربية التي تدعي معارضتها للتهجير وخاصة الدول المؤثرة في المنطقة هي متواطئة بل ومساهمة فعليا ماديا ومعنويا مثل السعودية والإمارات وبطبيعة الحال الأردن وسلطة عباس.
أما البقية فكل بحجمه، ومن كان حجمه كبيرا وتأثيره ليس هينا، يتجاوز حاله الصمت إلى التواطئ موضوعيا، لأنه سكت حيث لا يجب السكوت، وفضل القعود حيث القعود جريمة موصوفة. وما تبقى من الدول مدانون بسبب معرفتهم بالحقيقة - فلا توجد دولة ممكن أن يخفى عليها ما يدبر - ولجوؤهم إلى الصمت المخزي.
وإذا كانت هناك خيارات أخرى كما ينشر للتهجير لبلدان بعيدة هنا وهناك، فإنما ذلك فقط من أجل توفير ضمانات أكثر لإبعاد الفلسطينيين عن أرضهم، ومن أجل تجنب أي هزات لنظام السيسي قد تفلت من بين القبضة الأمنية التي تعتصر الشعب المصري وتمنعه حتى من التنفس.
هل يمكن أن يفشل مخطط التهجير؟
ليس هناك أمل لإفشال مخطط التهجير إلا بصمود الغزاويين وتمسكهم بأرضهم ولو كانت خرابا بلقعا.
ليس هناك أمل لإفشال مخطط التهجير إلا أن يصمود الغزاويون ولو كان ذلك ثمنه مئات الشهداء يوميا.
وهذا ما نلاحظه، هناك تهجير من خلال هدم الأبراج السكنية والمحاصرة والإرهاب بالتقدم الصهيوني الميداني، ومع ذلك فهناك من الغزاويين من عقد العزم على أن لا يبرح المكان الذي هو فيه ولو سقط شهيدا.
تلك هي موازين المعركة ... لن يتوقف العدو عن الإبادة المادية والبشرية ولن يرده إلا قدر إلاهي يتجاوز قدراتنا الاستشرافية.
لكن هذا القدر ومن خلال عبرة التاريخ، لن يأتي في لحظة استسلام، وإنما سيأتي في ذرة اشتداد المعركة، وفي لحظة حرجة جدا جدا، يسقط فيها كل شيئ ولا يبقى إلا اليقين في الله لعل المرابطون هنالك يحيونها ... فهي وحدها مفتاح النصر ....
"وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم"
تاريخ أول نشر 2025/9/17