أنهيت قراءة كتاب الصديق عبد الحق الزموري المعنون: "خيرالدين التونسي بين الحقيقة وظلها ... حفريات في مدونة الرسائل ... ج1" . سي عبدالحق متمرس في تحقيق النصوص والوقائع بمنهج أكاديمي صارم... وتعتبر دراسته لرسائل خيرالدين وإن لم تكن بكرا كموضوع إلا أن زاوية التناول فيها مهمة ... انشغاله بالحفر في "المشروع الاصلاحي التونسي" دفعه للخروج من دراسة "المقال" إلى دراسة "الحال" ... الحال في "المختبر" والحال في"المصنع" ... خير الدين وهو يبني شخصيته وفكره، وخير الدين وهو ينجز مشروعه وإصلاحه ... تناول كل ذلك من زاويتين رئيسيتين : زاوية الرحلات والاقامة (المتقطعة) في بلاد الغرب وأساسا باريس ومن زاوية شبكة العلاقات المتنوعة والمكثفة .
إذا كان يجوز لنا من زاوية علم النفس ان نضع في الاعتبار تنشئة خيرالدين في موطنه وفي نشأته الاولى في تركيا، فإنه من الطبيعي ان تكون لتونس تأثيرها الأكبر في بناء شخصيته ... لكن سي عبدالحق محق في تأثير رحلاته على شخصيته، وأساسا على رؤاه الفكرية ورؤيته الاصلاحية .... من هنا أرى ان ما لاحظه سي عبدالحق من عدم انسجام بين افكاره وسيرته السياسية خاصة في القبول بالعمل في مناخ "موبوء" سياسيا ومعارضته "المحتشمة" له، وكذلك وقوعه في تناقض بين ما يطمح إليه من عدل وحزم واختياره "الخاطئ" لبعض رجاله، وأيضا موقفه "البارد" تجاه ثورة بن غذاهم وما حصل خلال إخمادها من قتل ونهب وتدمير للجهات المنتفضة، كل ذلك يكشف في الحقيقة الوجه الآخر من شخصية خير الدين. فهو في الأول والاخير "مملوك مستجلب" من خارج تونس، قدم إليها وقد تخطى طفولته الأولى والثانية. وهو وإن حرره أحمد باي فيبقى مع ذلك خديم "الحضرة العلية" هو وصحبه من أغلب رجال الاصلاح، وهي سندهم ومنها يستمدون شرعيتهم. ومن هذه الزاوية يمكن ان نفهم نظرة خير الدين وصحبه لطريق الإصلاح الذي لا يمكن ان يخرج عن دائرة "المخزن" وبرضاه ومن طرف "طبقة أرستقراطية" (بما فيها ذوي الأصول التونسية المدينية " البِلدية") لا ترى في العامة إلا أن يُساسوا بالعدل لا أن يُشرَكوا في الحكم .... وهذه الرؤية هي من المشترك بين "المخزن الإسلامي" و "الليبرالية الأوروبية" في ذلك العهد برغم الفارق .... حتى "السانسيمونية" لم تكن إلا تيار نخبويا حديثا في ذلك العهد يؤمن بواجب النخبة في البناء والإصلاح ...
أختم هذا التعليق السريع بتساؤل حول "معنى" انتباه الباحث سي عبدالحق لهذه الزاوية ونقده من خلالها لخيرالدين . ألا يكشف ذلك أنتروبولوجيًا زاوية "عقل الدواخل" المنتفض دوما لمقاربات "العقل المخزني البِلدي" الذي تحكمه محددات تنشئته وخبرته ومصلحته؟
شكرا لسي عبدالحق على ما أتحفنا به ونرجو له مزيد التوفيق ...
كنت هربت هذه الأيام من متابعة الإنقلاب ومآسيه لكنني وجدت نفسي مع كتاب سي عبدالحق في قلب الحدث ...
تاريخ أول نشر 2021/11/27