بسرعة البرق استعاد القوميون والاسلاميون هذه الايام صراعاتهم التقليدية وفتحوا ملفاتهم القديمة . وقد ذكرني هذا بما حصل لأحد الطلاب التونسين، الذي انقطع عن الدراسة في الجامعة التونسية أوائل الثمانينات، وذهب ليواصل دراسته الجامعية في السعودية. ترك الجامعة التونسية تعج بالمعارك السياسية والفكرية بين الاتجاهات الماركسية والاسلامية والقومية في انعكاس لما تحويه الساحة الفكرية والسياسية العربية في تلك الفترة، ليجد نفسه في ساحة تعج بالمعارك المذهبية والعقائدية بين الاشعرية والصوفية والسلفية و تفرعاتهم المختلفة، في انعكاس لما كان يميز المجتمعات الاسلامية خلال القرون الاسلامية الخالية.
لقد ذهبت في الحين جهود التقارب الكبير بين الفريقين التي بدأت منذ أواخر الثمانينات واستمرت الى ثورة الربيع العربي. وقد قادها زعاماء و مفكرون كبار يأتي على رأسهم الشيخ راشد الغنوشي الذي بادر في المؤتمر الاول القومي الاسلامي الى القيام بنقد ذاتي جريئ أذهل من كان حاضرا في المؤتمر من القوميين. لقد كان الى جانب الغنوشي مفكرون و قادة اسلاميون كبار مثل عادل حسين و فهمي هويدي و القرضاوي و محمد عمارة و كان في الطرف الآخر قادة و مفكرون كبار مثل المرحومين أحمد صدقي الدجاني و مسعود الشابي ومعن بشور وخالد السفياني وخير الدين حسيب ومحمد ابن عصمت سيف الدولة وغيرهم كثير .
وقد انعكس ذلك على التناصر بين التيارين في المواجهات التي كانت تحدث مع الانظمة العربية، والالتفاف المشترك خلف المقاومة في لبنان و فلسطين وفي الحرب ضد العراق. كما انعكس ايضا في تحالفات سياسية و تعاون مشترك في العمليات السياسية في الاقطار المختلفة، و منها ترشيح الاخوان لزعيم التيار الناصري حمدين صباحي للبرلمان والتحالف المشترك في نقابة المحامين.
كما أثمر ذلك الالتقاء مراجعات وأعمال مشتركة فكرية وأدبيات تأسيسية نشر أغلبها من طرف مركز دراسات الوحدة العربية المؤسسة الرائدة التي رعت مشروع التقارب.
لكن و يا للاسف عوض أن تكون ثورة الربيع العربي فرصة عملية لصياغة برنامج عمل مشترك أوعلى الأقل تأسيس تحالفات وطنية، حدث العكس وخاصة مع ثورة 17 فبراير الليبية، ثم مع الثورة السورية اتسع الخرق على الراقع وازداد التنافر استفحالا.
ففي حين رأى الاسلاميون أن كل الثورات مشروعة لأن كل الآنظمة كانت أنظمة ديكتاتورية حكمت شعوبها بالحديد و النار، رأى القوميون خلاف ذلك و اعتبروا ما يحدث “ربيعا عبريا ” يتهدد الآمة خاصة مع تعقيدات الثورة السورية.
لم تفلح كل محاولات الحوار بل ازداد الوضع تأزما مع استشهاد محمد البراهمي بأيادي تكفيرية و لكن بتخطيط و توجيه خارجي لازالت خيوطه غامضة لم تكتشف بعد.
لم يكن القوميون يعانون ما يعانيه الاسلاميون من شبه اجتثاث كامل من ساحة المجتمع ، بل إنهم استفادوا طيلة العشريتين، وعمقوا حضورهم في الاتحاد العام التونسي للشغل وفي مؤسسات الدولة ، وحتى في حزب التجمع المنحل وفي الاتحاد العام لطلبة تونس بعدما كانوا يرفضونه ولا يعترفون به. وفي المقابل فقد نأوا بأنفسهم عن تحركات المعارضة أيام الزمن النوفمبري ولم يشاركوا في حركة 18 أكتوبر الشهيرة .
من الطبيعي أن يراعوا مصالحهم تلك، وأن يحافظوا على علاقاتهم التي بنوها عبر السنين. لكن هل أن ذلك كان مانعا من تعاون مشترك بينهم وبين الاسلاميين ؟
أكاد أجزم أن الاسلاميين كانوا حريصين على تشريك القوميين حتى في أوج انتصارهم في انتخابات 23 أكتوبر 2011، لا بل إن الأمر تحقق سنة 2013 بانضمام سالم الأبيض لحكومة علي العريض. ومع ذلك فقد استمر القوميون في جفائهم و انظمت بعض فصائلهم لجبهة الانقاذ.
وها هي الفرصة تنفتح للقاء تاريخي يتجاوز فيه الجميع “حزازات” الماضي البعيد الذي نتج عن أحداث أغلبها خارج تونس، باستثناء الاحتكاكات المحدودة في الحركة التلمذية أو الطلابية أو العمالية، والتي لا تقارن إطلاقا بما حصل بين اليساريين الماركسيين والاسلاميين من حركة الاتجاه الاسلامي . فجل “الحزازات” بينهما كانت ولا زالت بسبب تاريخ الاخوان مع عبد الناصر والأسد والقذافي. وكأن الطرفين يمثلان هؤلاء الأطراف في تونس، وهو أمر غريب وغير مستساغ.
وفي حين أقدم الاسلاميون وخاصة حركة النهضة ( الاتجاه الاسلامي سابقا) على مراجعات فكرية وسياسية في هذا الصدد، بل إنها أنشأت علاقات مع تلك الأنظمة في فترات معينة، بقي القوميون متمترسون بمواقعهم القديمة.
يعرف كل متابع للساحة الاسلامية أن حركة النهضة ( حركة الاتجاه الاسلامي سابقا ) قد قامت بمراجعات مبكرة للمسألة القومية، وللعلاقة بين للعروبة والاسلام. وكتب راشد الغنوشي في أوائل الثمانينات كتيب العروبة والاسلام الذي مثل نقطة تحول فكري وسياسي تبنته الحركة ونشرته . لكن الاخوة القوميين ولئن احتفى بعضهم بالكتاب، إلا أن الأجسام التنظيمية بقيت على نفورها القديم، ولم تستطع جهود الحوار القومي الاسلامي اختراق التنظيمات القومية التونسية ولم يتجاوز تأثيرها الأفراد .
إنها حالة محزنة ومستعصية تذكر بقول الشاعر العربي :
وقد ينبت الخطي في غير أرضه ### وتبقى حزازات النفوس كما هي.
هذه الحالة النفسية التي تعاني منها النخبة السياسية التونسية مؤذية و مؤسفة …. فهل إلى خروج منها بسبيل ؟
لم أجد بعد طول تأمل في الخلاف بين القوميين والاسلاميين من سبب فكري أو سياسي يبرره غير ما ترسب في النفوس من حزازات عهود المراهقة العمرية والسياسية…. فهل هناك معنى لاستمرارها في سن الرشد؟!
أقول بصدق مالذي بقي من الايديولوجية الاسلامية والايديولوجية القومية القديمة ما يصلح أن يستمر به التنافر الآن، وقد أضحت متطلبات المرحلة برامج عملية وتدبير سياسي ليس فيه مكان للنظريات الجوفاء والنعرات البدائية التي سادت من قبل؟
لقد فرضت التحولات الكبرى التي طرأت على الأمة منذ حرب الخليج الأولى، ومن قبلها سقوط المعسكر الاشتراكي، ومن بعدها ثورات الربيع العربي تجاوز الايديولوجيات “الكليانية” السابقة جميعها، ولم تترك لكل متكلس بأرديتها غير الموت المحقق، الذي سيأتيه من كل مكان ، إذ لا بقاء إلا للأجسام الحية المتجددة.
لقد كانت ثورة تونس استثنناءا في انطلاقها وفي استمرارها وتجددها، فهل تواصل صنع الاستثناء بأن تحقق التجاوز التاريخي لحزازات الماضي بتحقيق مصالحة تاريخية بين القوميين والاسلاميين وبقية الفصائل الوطنية ؟
تاريخ أول نشر 2019/10/25