وأنا أقرأ لأصدقاء ذكرياتهم حول امتحان الباكالوريا دفعوني للمساهمة معهم بالحديث عن تجربتي ...
بدأت قصتي مع الباكالوريا منذ توجيهي بعد الثالثة ثانوي ( النظام القديم). ذلك أن أساتذتي قد أصروا على توجيهي لشعبة رياضيات علوم التي لم تكن اختياري بالمرة. فقد أغراني ابن أختي إسماعيل الرطيب (المهندس الفلاحي) بالالتحاق به في المدرسة الفلاحية بسيدي بوزيد كي أعزز صفه وأعزز "الوجود الاسلامي" بالمدرسة.
ورغم مكانتي بين الأساتذة وفي المعهد عموما، فقد باءت محاولاتي ثنيهم بالفشل، إذ أصروا على أن أتوجه لشعبة الرياضيات علوم، مؤكدين لي أنني قادر على التفوق والنجاح فيها. استسلمت للأمر، وقضيت المرحلة الثانية حتى الباكالوريا في شعبة رياضيات علوم ولم أفلح مرتين في اجتياز الباكالوريا.
والحق أن السبب الرئيسي لذلك ليس عدم قدرتي المبدئية، وإنما لانشغالي عن الدراسة بالنشاط الإسلامي، ولعجزي عن التوفيق بين الدراسة واهتمامي المبالغ فيه بشكل لافت من الجميع بالمطالعة والتهام الكتب، إذ يحصل في أحيان كثيرة أن أكون اقتنيت أو استلفت كتابا هاما، فلا أتورع أن أترك الاستعداد لامتحان سأجريه غدا وأنهمك في قراءة ذلك الكتاب.
ومع أنني استفدت كثيرا في تكويني من خلال الدراسة في شعبة الرياضيات علوم، وساعدني ذلك على الارتقاء بملكة التفكير ومنهج القراءة والتحليل، إلا أنني لم أوفر ما يتطلبه النجاح في الشعبة، خاصة من خلال نوعية المنهج وطريقة الامتحان التي تفرض السعي إلى ملئ عقل المتعلم بأكبر قدر ممكن من حلول الامتحانات والمشاكل الرياضية والفيزيائية وغيرها ولا ينجو من ذلك إلا بعض النوابغ وقليل ما هم.
بعد محاولتي الفاشلة سنتين في امتحان الباكالوريا، توجهت لاجتياز الباكالوريا في مدرسة خاصة في قابس، وغيرت الشعبة من الرياضيات علوم إلى الآداب.
لم أجد صعوبة كبيرة في شعبة الآداب، وساعدني على ذلك تكويني وثقافتي العامة، واجتزت الإمتحان بنجاح رغم أن عدد الناجحين كان قليلا بين 5 و 7 تلاميذ على ما أذكر.
وكان معي في المدرسة الخاصة إخوة من مناطق شتى من الجنوب التونسي ذلك أن المدارس الخاصة ما زالت لم تشهد طفرتها بعد. وكنت قد قضيت فترة الإعداد للامتحان مع الأخ عبد الله بوقنة من جهة، ومع الإخوة عزالدين شمام و عبد العزيز شمام و الفيتوري بالريش و الحبيب الحاج مبروك و علي الجلالي من جهة اخرى، وكانت غالب أوقات المذاكرة نقضيها في بيت الأخ عبد العزير شمام أو عزالدين شمام.
ومن الطريف أنني التقيت بعد الثورة بالأخ العزيز صدقي زهدي زوج الأخت آمال عزوز، حيث دعتنا لزيارتها في بيتها. فتح الباب الأخ صدقي مسلما سلام من يعرف، لكنه لاحظ أنني أسلم سلام من لم يعرف. فبادرني قائلا أنسيتني؟ قلت معتذرا والله الذاكرة تعبت كثيرا. قال لي أنا صدقي وقد درسنا مع بعض في المدرسة الحرة واجتزنا الباكالوريا مع بعض. لكنني للأسف لم أجده في ذاكرتي لحد اللحظة!
إنه عذاب الذاكرة الذي لم يفارقني بعد ... ولعله لن يفارقني بل سيزيد في ألمي.
كانت تلك السنة التي قضيتها في قابس حافلة بالنشاط، وقد واكبت فيها أحداث ثورة الخبز وشاركت في المظاهرة الكبرى التي اجتازت الشوارع الرئيسية لقابس، كما شهدت قدوم الزعيم النقابي الحبيب عاشور بعد إطلاق سراحه وحضرت الاجتماع المهيب الذي عقد بالمناسبة، وغير ذلك من الأنشطة ذات الطابع العام أو الحركي الخاص.
ومن حسن الحظ أن مواد البرنامج كانت متساوقة مع انشغالاتي، وأن ما أنشغل به خارج البرنامج لا يبعدني كثيرا عنه.
كنت لا أنقطع عن الطواف على مكتبات قابس الشهيرة في جارة والمنزل وشنني، أترصد الأعداد الشهرية للمجلات المشهورة، وأختطف الجديد من الكتب رغم قلة الزاد الذي كنت أدخره لذلك ولو على حساب أشياء أخرى ضرورية.
والفضل لله الذي يسر لي رحلة كانت موفقة رغم تعثرها، إلا أنني لم أندم على ما حصل فيها، بل رأيت الحكمة والخير العميم فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا.
ثم الفضل بعد الله يرجع لأخي العزيز محمد الناصر الذي أنفق علي في سنة الباكالوريا في قابس، ووثق في، وقدر رغبتي الجامحة في مواصلة الدراسة، برغم الظروف العامة الصعبة إذ هو المعيل للعائلة.
وقد كان نجاحي في الباكالوريا حافزا له كي يسجل لاجتياز امتحان الباكالوريا هو أيضا بعد ذلك بسنتين أو ثلاث وأن يتمكن من اجتيازها بنجاح.
بعد الحصول على النتيجة "طرت" لقريتي لأشرك أهلي جميعا وخاصة الوالدة فرحتي، وقدم المهنون من كل القرية واستقبلناهم "بالقازوز والقوفريت" كما هي العادة تلك السنوات.
تاريخ أول نشر 2024/6/23