كان ذلك في ربيع 1990، حمّلني الشيخ راشد الغنوشي هدية لعائلته في تونس، وقد كنت التقيته في الجزائر في مؤتمر المستقبل الاسلامي. وبحكم تواضع وسائل التواصل يومئذ، فقد ذهبت بدون موعد مسبق. لم أجد سيدة البيت ولكنني وجدت الأبناء: تسنيم ومعاذ وسمية وربما يسرى أيضا. وعلى أمل أن ترجع الأم للبيت سريعا، خيرت المكوث مع الأولاد في انتظارها. كانت أول مناسبة أتعرف فيها عليهم مباشرة. تجاذبنا أطراف الحديث الذي بقي عالقا في ذهني منه حديثهم المستفيض عن والدهم بتلقائية وبحب وعاطفة جياشة وفخر. يذكرون حدبه عليهم واهتمامه بهم على قلة وقته المخصص لهم، وعلى افتراقه عنهم في مناسبتي السجن ثم الغربة، مع تواضع وسائل التواصل في ذلك الزمن. لكن أشد ما أثار انتباهي حديثهم عن الوالد، واهتمامه بقيمة الحرية وانفعاله الشديد بها، وردود أفعاله في المنزل وهو موضوع تحت الإقامة الجبرية قبل اعتقاله سنة 1987. كانت إحدى البنات، ولعلها سمية، تكاد تمثل دور الشيخ وهو يتحرك داخل البيت كأسد هصور محاصر في قفص حديدي.
لما كنا في الإيقاف سنة 1987 في مركز الإيقاف الجديد في منطقة بوشوشة بالعاصمة، وكانت أبواب غرفه حديدية في شكل أعمدة تشبه أقفاص الحيوانات المفترسة في الحدائق العمومية، كان أحد الإخوة يقول: الآن عرفت لماذا يقضي الأسد معظم وقته جيئة وذهابا. ولما انتقلنا للسجن المدني بشارع 9 أفريل، وقد وضعونا في جناج د المقابل لمصحة السجن، وقد أنزلوا الشيخ راشد بها، كنا نراه أحيانا يتحرك في ساحتها العلوية، وكان يتوقف أحيانا ليطل من خلال فرجات سورها يتفرس وجوهنا من بعيد. كانت رؤيته تزيدنا قوة وعزة، لكن رؤيته لنا ونحن وراء الأغلال تزيده مسؤولية فلا يفكر إلا في استنقاذنا. وما لبثنا أن من الله علينا بسقوط بورقيبة، وأنقذه الله من حبل المشنقة التي كان بورقيبة يصر على أن تتدلى رقبته فيه.
لم يبرح ذلك الحديث مع الأبناء ذاكرتي رغم تطاول السنين وضعف الذاكرة، وها أنا أراهم الآن يذودون عن أبيهم بكل ما شحنهم به من عزة النفس وقوة الحجة ورباطة الجأش.
تلك الحرية غدت عنوانا للتعريف براشد الغنوشي وإسهامه الفكري والحركي والسياسي منذ بواكير كتاباته ونشاطاته، لا تزيدها الأيام إلا رسوخا. وأذكر أن الشيخ يوسف القرضاوي كتب قصيدة "المسلمون قادمون" سنة 1985، يبشر فيها بتنامي الصحوة الإسلامية، ويعدد إنجازاتها مميزا كل بلد بما يميز رجال الصحوة فيه فقال عن تونس:
من تونس الخضراء ... حيث قد أفاق جيل النصر ... فاتحا عيونه
تقوده إلى الصراط المستقيم "صحوة" راشدة ميمونة
تهتف بالإيمان ... بالأخلاق ... بالحقوق ... بـالحرية المصونة
سارت إلى الأمام. فجرت طاقاته المكنونة
تدوس بالأقدام ... علمانية عميلة ... عليلة ... مجنونة
لا تعجبوا أن يوقد الزيت من الزيتونة
فقد ميز إسهام الصحوة في تونس بهتافها بالحرية.
أحدث حوار الشيخ راشد مع مجلة المجتمع الكويتية قبيل اعتقاله سنة 1981، رجة كبيرة داخل الحركة الاسلامية، كانت ستشتعل بعده "حرب كلامية" لولا أن لله حكمته سبحانه، فقد أوقفت حملة الإيقافات التي شنها النظام على الحركة ذلك، إذ بدا للجميع أن الغنوشي وإخوانه أولى بالدفاع عنهم الآن عوضا عن مجادلتهم خاصة وأنهم لا يستطيعون الرد على منتقدوهم. وحكمة الله جعلت من توقف الردود فرصة لكي يتأمل من استفزهم الحوار في ما قال، ويحاوروه حوارا صامتا هو أبعد عما تثيره الحوارات والمناظرات الصاخبة من انحرافات أحيانا، فتذهب بالمعنى وتطلق العنان للعواطف والانتصار للذات.
ورغم أن فكرة الحرية لها موقع مميز في "العقل الإصلاحي التونسي" منذ بواكيره، من خير الدين التونسي إلى عبد العزيز الثعالبي إلى العاشورين ولا سيما الشيخ الطاهر بن عاشور. إلا أنها مع الشيخ راشد تعمقت أكثر، والتصقت بالواقع أكثر، واحتلت "المركز" في الرؤية الإصلاحية بل النهضوية لا بل العقدية.
ومن مفهوم الحرية تناسلت باقي المفاهيم عند الغنوشي، سواء منها ما تعلق بالعقيدة أو بالانسان أو بالمجتمع أو بالحضارة. لم يبتدع الغنوشي مفاهيم جديدة، ولكنه ثوّر المفاهيم المستعملة وأعطاها بعدا تداوليا جديدا، أخرجها من التنميط والجفاف الكلامي أو الفلسفي، إلى رحابة وحيوية العمل. حتى مفهوم التوحيد الذي لا يجادل في مركزيته، فقد فهمه في ضوء مركزية مفهوم الحرية. فـالحرية تقتضي التوحيد والتوحيد يقتضي الحرية.
تابعت منذ مدة الندوة الفكرية التي أقيمت في المغرب حول إسهام الغنوشي الفكري، والذي بدا للبرفسور الأمريكي أندري مارش أنه يتمحور حول فكرة "المسلم الديمقراطي". وعندي أن ذلك ليس إلا نتيجة لمسار لا يمكن أن يفهم إلا في ضوء محور مشروع راشد الغنوشي الفكري ألا وهو الحرية. لأن الحديث عن تطور فكر الغنوشي وإن كان يمكن تفهمه من زاوية، فلا يمكن القبول به من زاوية أن التحولات الفكرية لا تحدث في خريف العمر إلا من حيث الاستدراكات أو التعديلات الجزئية. لا تقبل طبيعة الانسان ذلك، ذلك أن مركبه النفسي والعقلي يتأبى عن التقلب برغم ما يبدو أحيانا في سلوك بعض الناس ذلك، ولكنه لا يكون إلا على سبيل الاستثناء.
قيمة الحرية التي يعطيها الغنوشي موقعها المركزي، هي التي أعطته تلك القدرة على استنباط الأفكار الدافعة والحية لتفعيل الإنسان، الذي يظل مقصوده الأسمى ورسالته التي نذر نفسه لها كداعية وكرجل سياسة ينشد التغيير في الواقع دائما.
إن قيمة الحرية هي التي جعلته يزاوج بين سيد قطب ومالك بنبي ... فلقد فضل موقف بنبي على موقف سيد في مسألة محددة - وإن كانت لها أهميتها - ألا وهي ضرورة التفريق بين الاسلام والحضارة، لكنه لم يرفض سيدا في أبعاده الأخرى، وما كان له أن يفعل ذلك. وأزعم أنه لم يجرّه ما جرّ كثيرين إلى سوء فهم سيد في المفاهيم الملتبسة التي أساء فهمها الكثير وانتقد فهمها سيد نفسه وقال قولته المشهورة : "وضعت حملي على جمل أعرج". فعقل الشيخ اليقظ، وحسه النقدي، وملكته اللغوية، كل ذلك جعله يضع سيدا في موقعه الأصيل كأحد أبرز أصحاب المشاريع الفكرية في العلم العربي في الخمسينات.
سيد قطب الذي كانت روحه وكذلك عقله يعطيان الحرية بعدا عميقا في الرؤية والعمل.
ولعلي أجازف فأقول أنه كان معجبا ببنبي في قدرته على استنهاض طاقة التفكيك، ودون أن يتخلى عن إعجابه بسيد في قدرته على استنهاض طاقة البناء.
لم يتمحض الشيخ راشد لمهمة الفكر، ولو فعل ذلك لرأينا علما من أعلام الفكر التونسي العربي الاسلامي. لكنه اعتبر الفكر أداته الأساسية للعمل. وكان يمتحن أفكاره بنفسه في ساحة العمل، كان العمل يمده بطاقة التفكير، طاقة مستمدة من وعثاء الطريق ومفاجآت المسالك ولهب المعارك. تأتيه الفكرة وقد صهرها الواقع فتكون "أصدق أنباء من الكتب".
حدثني مرافقه وكاتبه الخاص السيد عبد القادر الجديدي، أنه كان يفضل في سفراتهم الطويلة في عرض البلاد أن يسوق السيارة بنقسه، بينما يتولى السيد عبد القادر القراءة عليه من كتاب قد انتقاه للرحلة، فكان بقدر ما يركز في قيادته السيارة، بقدر ما يركز في ما يقرأ عليه. وأحيانا يتحول الموضوع إلى نقاش ومحاورات عميقة بينهما.
كانت سنوات الثمانينات في تونس سنوات الحديث الذي لا ينقطع عن "الأزمة الفكرية" وعن "المفاهيم" وعن "النظرية" وما إلى ذلك، وهي نفس الانشغالات في العالم العربي. وفي حين رأى البعض ومنهم "الاسلاميون التقدميون"، أن هذا التحدي يقتضي التوقف عن العمل لحين الحصول على الجواب، رفض الغنوشي هذه الفكرة، وآثر أن يواجه التحدي بالتحدي. أن ينجز في الفكر ودون أن يتخلى عن العمل. ويستطيع أي متابع دقيق إلى منجزات الحركة الاسلامية التونسية، أن يرى أنّ الجرآة الفكرية والإنجاز العملي والتأثير الذي تجاوز تونس الذي أحدثه الغنوشي، قد تجاوز بأشواط ما أنجزه غيره حتى لا نقول تفرده بذلك. فأغلب القضايا التي طرحها "الاسلاميون التقدميون" طرحها الغنوشي داخل الحركة وفي الساحة، وكان فيها ذكيا من الناحية البيداغوجية، يقدم فكرته مزاوجا بين جرآة الطرح في المضمون، والتدرج في الأسلوب، واعتماد الحوار، والصبر على الانصات، وامتصاص الغضب، والبعد عن الاستفزاز المحقر للمخالف، والقدرة الفائقة على توظيف النص قرآنا وحديثا وكذلك السيرة للإقناع، فتصل الفكرة لا "يابسة" فتكسر ولا "لينة" فتضيع وسط الحشو ولغو الكلام.
يمتلك الغنوشي شخصية من النوع الذي "يبدع عند الاستفزاز" و"يتألق عند المواجهة"، فمنذ الندوة الصحفية للإعلان عن الحركة وأجوبته التي استثارت انتباه المتابعين حول الحرية والتعددية والديمقراطية، إلى ما بعدها من المواجهات المباشرة أو غير المباشرة، كان لا ينفك عن مفاجأة محاوريه بقدرته الفائقة على المناظرة وتوليد الأفكار والمعاني، وعدم تهيب النقد الذاتي وممارسة ما أسميته النقد المزدوج. وقد مكنه تحيينه المستمر لمعارفه، ومتابعته للجديد من الأفكار والمشاريع الفكرية، واختصاصه الفلسفي، من أن يكون قادرا على الإلمام بالعلوم المختلفة منهجا ومضمونا.
لا يسمح المجال في مثل هذه المقالات بالتوسع أكثر في الموضوع، ولعلي أفعل ذلك في قادم الأيام، لكنني أؤكد أن الغنوشي صاحب مشروع في التغيير جوهره الحرية، وقد احتاج منه أن ينفق في بنائه إلى جهد عقلي تمخض عن إشراقات تعد إضافات لم يُسبق إليها ولا يمكن أن يتجاهلها أي باحث، وسيزداد الاهتمام بها وبه أكثر مع الأيام كشأن غيره من الزعماء والمفكرين الذين تنصفهم الأجيال القادمة أكثر مما ينصفه معاصريه.
لقد آثرت أن أستذكر إيقافه الظالم بأجلّ ما يُذكر به أمثاله، فلا يحتاج أمثاله استعطافا من أحد، فسيظل اعتقاله وصمة عار لا تلحق بالجاني وزبانيته، فهؤلاء يعار العار منهم ولا يجوز في حقهم إلا المحاسبة، وإنما هو وصمة عار لأولائك الذين يصمتون في موضع الكلام، ويهمسون في موضع الصدع، ويتخاذلون في موضع النصرة، وما دروا أن كل ما يفعلونه سيرتد عليهم وليس لهم منه كاشفة إن لم يستدركوا.
تاريخ أول نشر 2025/4/17