إلى والدي الحبيب، في عيد ميلاده الرابع والثمانين،
بابا الغالي، لم تؤمن يوما باعياد الميلاد وظللت تكرر ان أعمارَنا هي اعمالُنا وما أنجزناه، ولا ضرورة لحساب سنوات العمر لذاتها…وتجيب ضاحكا من يشير إلى سني عمرك انك سوف تقتنع انك لم تعد شابا عندما لا تستطيع صعود درج البيت هرولة…
انت هكذا أبي، همة عالية تفوق همة الشباب وروح متقدة ونشيطة، متوثبة للأفضل، يخجل منها من نمط حياته هو القعود والكسل. أذكر كيف كنت تقص علينا مبتسما كيف انك خلال سجنك الثاني في عام 1987، أي عندما كنت كهلا في الأربعينات، كنت تتسابق مع سجانيك الشبان الذين قد تلقّوا تدريبا أمنيا ورياضيا صارما وعاليا، فتسألهم عن عدد الpush-ups ( تمارين الضغط) التي يستطيعون القيام بها فتذكر لهم انك ستضاعف اي عدد يذكرونه وتتحداهم في ذلك…روح التحدي مع الالتزام والانضباط هي عوامل تشحذ عزمك وتوقك دائما إلى إنجاز الأفضل بما يحررك من ظروف الزمن وحتى المكان …ومن كل القيود…ولهذا لم تأبه أبدا بالعمر…تدرّب جسدك بالحركة المستمرة والصوم الطويل على الجلد والصبر، وتحركك همة عالية وروح متقدة متعلقة بالله وما عنده وعقل فذّ وَهَبَهُ اللهُ رَشَدا.
والدي الحبيب، اليوم هو يوم ميلادك الرابع والثمانون. هذه ثالث ذكرى لميلادك تمر وأنت في سجنك، بعيدًا عنّا، عن أحبّتك، وأنت تدفع ثمن أفكارك، ثمن تمسكك بالديمقراطية، بالحوار، بالحرية للجميع…لكن رغم اسوار السجن التي تبعدك عنا، أنت حاضر بيننا…كما ظللت دائما رغم انشغالك بالشأن العام.
سجنك وسجن العشرات من الأحرار في البلاد ليس بسبب ذنب حقيقي اقترفتموه…ذنبكم هو فرط الحب …هو حب بلادكم ومساهمتكم في الشأن العام…في الحقيقة هذا الحب قد نافسني على حبك واهتمامك منذ ولدت، إذ بذلت عمرك من أجله… كنتُ مُنذ دخلتَ المعتقلَ لأول مرة أتساءل كيف لأحد أن يحب الى هذا الحد ويعطي نفسه الى هذا الحد… ثم يلقى كل هذا العناء وكل هذا الصد والجحود، ومع ذلك يواصل دون أي تراجع او تردد في بذل أغلى ما لديه وكل ما لديه من أجل هذا الحب الذي لم يكن يبدو لي عادلا ولا مجديا.. كيف يمكن لشخص أن يصرّ مع كل ما لقيه من صدّ وعنت في هذا الحب أن لا يذكر محبوبه الا بكل خير؟ هكذا كان يحدثني قلبي عندما كنت طفلة ثم يافعة…
ظلت السلطة تصنع حولك وحول الأحرار كل أنواع الأراجيف… تبني سرديّتها وتوظف في ذلك كل شيء…ولكن رغم هذه الأكاذيب…ورغم كل الشيطنة في حقك، ظللت ترفض ان تسب المرجفين وترفض أن تردّ على السيئة بمثلها، محاولا دائما أن تجمع الناس حول خير تونس وحبها…ملتزما بخلق الأنبياء ظللت تردد: " من قال هلك الناس فهو أهلكُهم"… كما أنك ظللت مقتنعا أن ثقافة الحرية والاحترام لا تبنى في يوم واحد وإنما تكتسب تدريجيا. وترى أنه لا يجب قمع الحريات بل يجب ترشيدها وتصرّ ان السلطة لا يجب ان تستعمل لقمع الحريات.
يعي الجميع الآن أنك حين وقفت في وجه الدبابة ليلة الانقلاب، قد خلدت اسمك في التاريخ واضفت موقفا شجاعا في مسيرتك الحافلة…لا يهم بعد ذلك سجنك او أي شيء يأتيه الطغيان أملا في طمس كلمة الحق…قد قلتها وكفى…علّمتنا، يا أبي، أن الحرية موقف وكلمة حق في وجه الظلم والطغيان، وهي لا تُوهب بل تُنتزع، وأن الثبات على المبدأ هو طريق الكرامة، مهما طال الزمن أو اشتد الظلم.
في هذا اليوم، والدي الغالي، لا نحتفي بميلادك فقط، بل نحتفي ونفخر بمواقفك، بالرجل الذي ما باع ضميره، وما خضع، وما بدل تبديلاً. نحتفل بك رمزًا للنضال السلمي، وصوتًا لم يُكسر، وإرادة لم تُهزم.
نعدك أن نبقى على العهد، أوفياء لما تؤمن به، مستمرين في الدفاع عن الحرية والعدالة لكل أبناء الوطن الذي تحب والأرض التي انت متجذر فيها…
كل عام وأنت بخير والدي الحبيب… أنت في في قلوبنا و في دعائنا… يقيننا أن اسمك قد خلدته مواقفك في قلب مسيرة الحرية التي وإن تعثرت فلن تتوقف…سردية الحرية هي الأقوى بإذن الله، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
تاريخ أول نشر 2025/6/22