سي حمة ...
لم يحصل لي شرف التعرف عليك بصفة شخصية مباشرة. ولم اتشرف حتى بحضور فعاليات شاركت فيها أو أشرفت عليها. لكنني متابع لما تنشره ولما يصدر عنك من مواقف وحوارات مقروءة ومسموعة ومرئية.
لا يفلت من بين يدي ما يصدر عنك منذ ثمانينيات القرن الماضي، كنت اقتني ما يصدر عنك من كتب وربما كان باكورتها: "ضد الظلامية"، وقد حرصت كـ"ظلامي" أن أقرأ رأيك في وفي أمثالي وفي التيار الذي ننتمي إليه.
وتلك طبيعتي ... أقرأ لخصومي قبل غيرهم، لا أجد حرجا في ذلك ... أذكر ذلك منذ أن كان سلاح المقاطعة وتجريم قراءة ما يكتبه الخصوم ... حيث تصدر "فتاوى التحريم" من كل العائلات الايديولوجية ... و"كل حزب بما لديهم فرحون".
كونت فكرة عن شخصيتك أيضا من أصدقاء التقوا بك في أنشطة لأحزاب المعارضة ... وحدثوني عن وجهك الإنساني ... وجه حمة التونسي مثله مثل أي تونسي آخر ... عندما يفرض الإطار نزع "حجاب" الايديولوجية.
سي حمة ...
نحن أبناء تونس "الداخل"، تونس "الآفاق"، تونس " من وراء البلايك" تعجبنا المبدئية في المواقف، ويعجبنا الموقف المتخفف إن لم يكن الخالي أصلا من "البوليتيك" و"الترهدين" ... وفي شخصيتك ومواقفك نصيب وافر من ذلك، وهو ما يحصد الاعجاب بك وأقله التقدير والاحترام برغم الاختلاف.
تابعت عن قرب مساهماتك في مبادرة 18 أكتوبر، وقرأتٌ بتمعن ما كتبت، وقد نوهتٌ بذلك وقدرتٌ مساهمتك وتبنيتٌ بعض ما طرحت.
ورغم ما حصل من احتكاك بين حزب العمال و حركة النهضة منذ ما قبل التسميتين في الجامعة وفي البلاد، إلا انه يٌشهد لك أنك كنت ضد المحاكمات السياسية وضد التعذيب والملاحقات، وهو نفس الموقف الذي اتخذته النهضة لما تم اعتقالكم واعتقال أعضاء حزبكم وتعرض بعض أنصاركم للملاحقات. بل إن الشيخ راشد الغنوشي لما بادرت النهضة بمساندة المعتقلين والدخول في إضراب جوع في التسعينات، حرص في تصريحه - الذي لا زال محفوظا - على التأكيد أنه مساندة لكل المعتقلين السياسيين بما فيهم معتقلي حزب العمال.
سي حمة ...
نعرف جميعا أن العلاقة بين الاسلاميين واليسار انبنت منذ البداية على عداء مستحكم، جذره الأساسي إيديولوجي، مبني على ما بين الإسلام كما يفهمه الاسلاميون والماركسية كما يفهمها الماركسيون من خلاف جذري. وهي علاقة حكمها برغم ما يبدو من تأسيسها على "منطلقات فكرية" لدى الطرفين، الإطار الثقافي والسياسي الذي ساد العالم في ذلك الوقت، المشحون بمفاهيم الجذرية والقطيعة والنقائض المطلقة وما إلى ذلك مما أسميه "إبستيمياء مرحلة الحرب الباردة". ولكن الممارسة السياسية والاحتكاك بالواقع ووجود نظام ديكتاتوري أمّم الفضاء العام، جعل الاسلاميين مبكرا يراجعون أولوياتهم وتصنيفهم للخصوم، فاحتل النظام مكان المعارضة بكل أطيافها بما فيهم اليسار و تغيرت الأولوية في العلاقة من: "إسلام وكفر" الى "حرية وديكتاتورية"....
من الطبيعي أن تكون البدايات متعثرة، فاستبدال القناعات ليس سهلا، ولكن القناعة ترسخت مع الزمن، ولم تشهد في أي يوم انتكاسة أو مراجعة ... وحتى عندما يٌطرح الموضوع في لحظات اشتداد الصراع بين الاسلاميين واليسار، كان دائما يٌؤخذ من جهة الموقف السياسي وليس الايديولوجي. فكان النقد ينصب دائما على الخيار الذي اتبعه طيف من اليسار من اعتباره أن التناقض مع الاسلاميين رئيسي ومع النظام ثانوي.
تميزت مواقفكم من هذه الزاوية بشجاعة لافتة، تفرق بين الاختلاف الايديولوجي والموقف السياسي، ورفضكم لاستعمال وسائل غير وسائل الصراع الفكري والسياسي مع الاسلاميين، وقد حماكم ذلك من التورط في الانخراط في الحملة الاستئصالية التي وظف لها بن علي طيفا مهما من اليسار، وانخرط فيها ذلك الطيف بحماس كبير وقناعة راسخة ملخصها أن التناقض الرئيسي مع الاسلاميين بينما يعتبر التناقض مع النظام تناقضا ثانويا.
كادت أن تكون لحظة 18 أكتوبر لحظة فارقة ولحظة "قطيعة" مع ما قبلها. ولكن للأسف يبدو أن الساحة لم تكن مهيئة بما فيه الكفاية، وأن الشجاعة التي تحليت بها لم تقابل بما تستحقه من وعي داخل الطبقة السياسية، وداخل اليسار خاصة، وربما حتى داخل حزبكم. توقفت مبادرة 18 أكتوبر قبيل الثورة، وتكسرت تحت وقع الدسائس التي اشتغل عليها النظام وبطانته وقصر نظر طيف من المعارضة. وكان يمكن لو استمرت بعنفوانها، لجعلت قوى الثورة أكثر استعدادا لتقبل حدث الثورة والتعاطي معه بشكل يجعل المبادرة بيدها لا أن "تسقط" منذ البداية في "حضن" النظام القديم، من خلال يافطة "استمرارية الدولة" التي هندس لها بنجاح النظام القديم من خلال حكومة الباجي قائد السبسي والهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي المعروفة اختصارا ورمزيا بـ"هيئة بن عاشور".
ورغم أن شباب الثورة حاول من خلال القصبة 1 والقصبة 2 استعادة المبادرة، إلا أن المعارضة لم تصمد أمام مناورات "الدولة العميقة" وفشلت مبادرة "المجلس الوطني لحماية الثورة".
اعترف الشيخ راشد الغنوشي في حواره مع صلاح الدين الجورشي، الذي نشره في مجلة سياسات عربية في العدد 18 جانفي/يناير 2016، أنهم ولئن حرصوا على أن لا يحكموا وحدهم، ورفضوا التحالف مع الهاشمي الحامدي الذي كان سيمكنهم التحالف معه من الاستغناء عن تحالفات أخرى قد يكون فيها تنازل منهم لا يحتاجون إليه، لكنه يعترف أيضا أنهم تسرعوا وكان أفضل لو تفاوضوا مع بقية الأطراف، وذكر بالاسم نجيب الشابي وحمة الهمامي، وقال إنه كان أفضل لو حرصنا أكثر على ضمهم معنا ولو كلف ذلك تنازلات من طرفنا.
هذا الوجه "العقلاني" في الممارسة السياسية للطبقة السياسية التونسية، يصطدم للأسف بالواقع، الذي برغم الجهود التي تبذل، إلا أنه استعصى على الإخضاع لمنطق العقل والعقلانية، وللمصلحة العليا، ولقيم التعايش والبناء المشترك، وإلى الخلط بين ما تفرضه الاختلافات الإيديولوجية من تمايز، وما تفرضه أيضا الاختلافات في برامج الحكم من صعوبة تكوين التحالفات، وكل ذلك يمكن أن يٌفهم، وبين ما يٌعد شرطا لازما للعيش المشترك، الذي لا يمكن الحديث عنه واقعا، إلا عندما يتعلق الأمر بوجود كيانات تخترقها اختلافات ايديولوجية، وليس لها خيار في ممارستها للسياسة، إلا أن تختار بين الحرب أو بناء قواعد للعيش المشترك، لا ينتفي فيها التدافع بل الصراع، ولكنه يمارس بأدوات السياسة لا بأدوات الحرب.
سي حمة ...
أعادنا الانقلاب إلى وضع ما قبل الثورة، مع إضافة مهمة جدا، وهي أنه على عكس التسعينات حيث بدأ بن علي بالنهضة ثم ألحق بها شيئا فشيئا البقية، فإن انقلاب قيس سعيد فتح سجونه للجميع : النهضة وخصومها الألداء. وضع النهضة ومن يرون في التناقض معها تناقضا رئيسيا وليس مع النظام في زنزانات واحدة. في المقابل بقيت "الطوائف" السياسية سجينة محابسها الفكرية، تتمعش من مخيال سياسي بائس تغير وجه الزمان ولم يتغير، وتحركت كل "الصفائح التكتونية" من حولهم إلا صفائحهم لم تكد تتزحزح من مكانها.
سي حمة ...
دور الزعامة السياسية والقيادة الفكرية والروحية أن تكون قائدة، وأن تتحمل مسؤولية تعديل البوصلة، والخروج من الشرنقات التي تصنعها الالتفافات الحزبية حول بعضها. من المفهوم أن يراعي القائد وعي قواعده، وأن يستمع لرأيها، وأن يقدر استعداداتها، ولكنه أيضا يتحمل مسؤولية التغيير فيها، وعليه أن يتحلى بشجاعة جرّها إلى مربع الحركة والتفاعل مع الواقع، وأن يٌخرجها من التحنط الفكري والاستسلام لقوالب الماضي الجامدة.
سي حمة ...
إن أحد الأسس المنهجية والابستيمولوجية للفكر الماركسي هو مبدأ الحركة والتغير ... وكارل ماركس نفسه قدم المثال في سيرته، فبرغم عنصر التواصل والوحدة في تفكيره، فليس ماركس البيان الشيوعي هو ماركس رأس المال ... وليس ماركس الشاب هو ماركس الذي عركته التجارب.
سي حمة ...
وأنا أقلّب في الوجوه السياسية التي ما زالت تتحرك في الساحة ولها كلمة مسموعة، وجدت بعضهم رفاقك في العامل التونسي، حيث ولدت أحلامكم معا في حركة واحدة وكيان واحد. ولئن تفرقت بكم السبل بعد ذلك، فما يجمعكم الآن هو التجارب التي خضتموها والدروس التي استخلصتموها ... وأتوقع أنها قربتكم من جديد ... أذكر أسماء مثل نجيب الشابي الذي كان في وقت من الأوقات هو المشرف على العامل التونسي، وأذكر عبد اللطيف الهرماسي الذي هو الآن نائب الأمين العام للحزب الجمهوري، وأذكر شيخ للمناضلين /#عزالدين_الحزڨي وأكيد أن هناك أسماء أخرى وازنة في الساحة السياسية ممن جمعتكم أحلام الشباب بوطن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
سي حمة ...
أمامك فرصة تاريخية كي تلعب دورا مفصليا في لحظة فارقة ... تقدم ولا تتردد ... كن حمة "الصرعة" بما أوتيت من شجاعة وعقل ومبدئية، واكسر القوالب الجامدة التي أعاقت الحياة السياسية التونسية، وأعاقت بالخصوص اليسار التونسي ...
اجعل التاريخ حافزا بما نجحت فيه وبما تعثرت، وأضف لبصمتك في حزبك ولبصمتك في تيارك بصمة كبرى لوطن واحد وشعب واحد لا يستغني بعضه عن بعض ويصبر بعضه على بعض
سي حمة ...
أنا من أولائك الذين يؤمنون إيمانا جازما أن تونس لا يمكن أن تستغني عن تياراتها الرئيسية الاسلامية واليسارية والليبرالية والقومية، وأن وجودها على قاعدة عيش مشترك قوامه الحرية والديمقراطية ضرورة وطنية مصيرية، ودون أن يعني ذلك ذوبانها في كيان واحد أو ابتلاع بعضها البعض فذلك محال ومضر على فرض أنه ممكن الحصول.
أعرف أن الكثيرين سيسخرون مما كتبت، وبعضهم سيقرأونه كعادتهم بسوء طوية ... لكنني أقول وأنا مؤمن بكل ما فيه ... وسواء أحسنتٌ التعبير عن قصدي أم لم أحسن ... أن تلك هي قناعتي وذلك هو محصل خبرتي وتجربتي بعد سنين من العمر تجاوزت شرخ الشباب وشرخ الكهولة ...
تونس لنا جميعا ولا يجب أن تكون لبعضنا ولا لغيرنا ...
تاريخ أول نشر 2025/11/12
