search

سلام عليك أيها الشيخ المجاهد

سنة مضت والحر تخفي جسده أسوار سجن الظالمين ...

في البلاد التي أقيم بها الآن، يمنع القانون سجن إنسان في مثل عمره، لما تقتضيه كرامته الانسانية من خدمات لا توفرها السجون، ومن راحة نفسية تمتنع السجون تلقائيا عن توفيرها بمجرد ما يدلف الانسان داخل أسوارها ... وكل هذا في صورة وجود مبرر قانوني لسجن الإنسان ونعني بذلك محاكمة عادلة وأحكام باتة ... فما بالك والحال أن الشيخ راشد الغنوشي لا زال الانقلاب - وبعد سنة كاملة - لا يقوى على توفير مستندات تصلح لمحاكمته !

لكنني أعود لنفسي وأقول:

وهل سيكون الشيخ راشد استثناء في التاريخ؟ أليس تاريخنا وتاريخ الانسانية مليئا بالتنكر للمصلحين بل والتشفي والانتقام منهم؟ أليس ذلك الظلم الصراح والشماتة الفاجرة ضرورية كي يضيف المصلح لتركته في الاصلاح والعطاء جهادا من نوع آخر هو أبقى في الانسانية مثلا سائرا وقدوة حية وإلهاما لا ينضب للمصلحين والساعين للخير من بعده؟ أليست تلك النهايات الظالمة صقلا لمسيرته الناصبة وتنقية لها مما اعتورها من الخطإ والزلل الذي لا يسلم منه إنسان حتى إذا ذكرت في التاريخ بدت وكأنها ذرات لا ترى في سيرة مليئة بالجهاد والمثابرة والتضحية والفداء والإقدام والشجاعة والإنجاز ؟

من يحاكم من ؟

هل يحاكم الغنوشي الشعب التونسي الذي لا طريق له إلا صناديق الاقتراع الشفافة في انتخابات حرة ونزيهة؟ وقد نالها باستحقاق رغم كل الكيد والتضليل والارجاف الذي مورس ضده والذي وقع ضحيته حتى ممن هم حوله؟ نعم فاز الغنوشي بثقة الشعب التونسي في انتخابات تعد مثالا في العالم العربي. وقد أكبرت فيه شجاعته وجرأته وتحديه حتى لمن حوله ممن كاد بعضهم أن يسقط في يده من هول الإرجاف والتشويه والتخويف الذي مورس ضده. وكتبت يومها: اليوم أسقط الغنوشي الصورة السوداء التي أرادوا فرضها عليه وادعاء: "أن التونسيين يكرهونه". وأعترف أنني ممن نصحه بالتقدم للحكم مباشرة وعدم الاكتفاء بالحكم من وراء حجاب، لأنني أعلم أنه لا يمكن أن يبتعد عن ساحة الحكم ما دام يرأس النهضة، وخير له وللنهضة والبلاد أن يساهم في الحكم مباشرة من أن يبقى هو والبلاد تعاني مشكلات الحكم غير المباشر . لا أريد أن أدخل في تفاصيل هذا الموضوع، ولكنني باختصار أعلم أنه لا سبيل إلى أن تواصل النهضة مساهمتها الفاعلة في حكم البلاد والغنوشي يمارس الحكم من خارج الموقع الطبيعي للحكم، ولأنه لا سبيل لتجاوز مساهمته ما دام على رأس النهضة، كما أن تجاوز دور الغنوشي على الأقل في ذلك الوقت لم تتوفر شروطه بعد لأسباب كثيرة ليس هذا مجال تفصيلها.

أعلم أن القرار لم يكن سهلا بالمرة وهو يتجاوز بالتأكيد مجرد "شهوة الكرسي" خاصة بالنسبة لرجل مثل الشيخ راشد.

وقد اختار المركب الصعب كما هي شخصيته في عدم التكبكب عندما تلوح له ضرورة التقدم ... لا يبالي .... يفكر بعمق، ويستمع باهتمام، ويستخير بصدق، ويعزم عزم الرجال، ويتوكل توكل المؤمن.

ليس الغنوشي من أولائك الذين لا يدركون خطورة قرار مثل الذي اتخذه، ولا من أولائك الذين لا يدركون تعقد الساحة الداخلية والخارجية، وهو يعرف أنه لم يتخذ قرارا للقيام بنزهة على شط قمرت. وقد أوتي وخاصة في سنواته الأخيرة "عقلا باردا" وقدرة عجيبة على استقبال أعقد اللحظات والصبر عليها وانتظار "انكسار موجتها" في هدوء مستفز.

لكن الوقائع في صفحة التاريخ لا تظهر مساراتها ولا محدداتها بالصفاء والوضوح والاختزال الذي يبدو للناظر كما هي في حقيقتها الفيزيائية، بل إنها وعلى عكس قانون الفيزياء تظهر في صفحة عقل الناظر بحسب التكييف الذي أعده لها، فيرى من الوقائع ما استعد لاستقباله ويختفي منها ما تحجبه استعداداته للتلقي بأسباب غاية في التعقيد.

لكل ذلك يحتاج النظر للأحداث والرجال بعقل هادئ حصيف ... عقل فردي وعقل جماعي ... وخاصة عندما يكون النظر لها بعد انقضائها أي عندما تتحول إلى قدر ناجز من أقدار الله إذ تبدأ مع الوقت تتكشف عن الحكمة منها وبعضها قد لا تظهر حكمته إلا بعد زمن طويل.

أعود بعد هذا الاستطراد الضروري المركز أردت أن أجيب من خلاله على تساؤلات وحيرة وامتعاض الكثير من الأصدقاء عن موقفي الذي يرى فيه البعض تغيرا وربما انقلابا!

سيكتب التاريخ عن الشيخ راشد بما هو أهل له ... ولأن التاريخ علم كل من يتأمله مالذي يبقى وماالذي يختفي من سيرة الإنسان ... مالذي يحتل الصدارة ومالذي ينزوي في تجاويف بعيدة ... مالذي يعطي لحياته معناها الحقيقي في دنيا الناس وصفحات التاريخ ... مالذي يبقى خالدا تتناقله الأجيال ويترسم خطاه المصلحون القادمون لمسرح الحياة، ومالذي لا ينكشف الا لمن يتعقبه من المنقبين في أغوار التاريخ من أجل تنسيب الرمز أو استهدافه، أو مما يتحول إلى كليشيهات تحتفظ بها الذاكرة الجماعية الغرائبية.

لست في حاجة الى سرد عشرات الأمثلة لمصلحين وزعماء قضوا آخر حياتهم "منبوذين" من أقوامهم، أو قعدوا عن مناصرتهم أمام ظلم خصومهم، أو ماتوا ولم يشهد جنازتهم غير أهلهم المقربين ... ولكن التاريخ أنصفهم واستفاق الأحفاد وأحيانا الأبناء من غفلة آبائهم بل وظلمهم لهم، فلم يكتفوا بإنصاف أولائك المصلحين بل اتخذوهم رموزا وقدوة وأولياء ... وتاريخ تونسنا القريب يكشف عن أمثلة في مجال العلم والسياسة معلومة.

والشيخ راشد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طيلة خمسين عاما، لا يزداد دوره مع الأيام إلا عمقا واتساعا، ولم ينقطع دفق عطائه بعد، ولن يزيده سجن الظالمين إلا تدفقا.

الشيخ راشد شخصية مميزة تشكلت من عجين متفرد، استقى مواده الأولى من شخصيات مميزة ومتفردة وربما بدت متناقضة: بين مالك بنبي العقل النهضوي الفرد، وسيد قطب العقل الحيوي الحركي باستعلاء الإيمان، وحسن البنا العقل العملي التنظيمي المنفتح ... وأزهار وأكاليل متنوعة من حقل الانسانية الخصب ماضيا وحاضرا، وقطوف من "جنة" الأمة النضرة بكل مثمر وجميل، وحصائد من "سهول" تونسنا التي أطعمت "العالم".

لا يضير الشيخ راشد أن كبا جواده مرات، فلكل جواد كبوة. ولا يضيره أن أخطأ التقدير فالمؤمن خطاء. ولكنه - وهو لا يستنكف عن التصريح بذلك او الكتابة فيه- لا يداخله الشك أنه لا توجد "أخطاء قاتلة" إلا إذا قتل الانسان فينا ... الانسان المؤمن ... عميق الايمان ... بالله أولا ثم برسالته تبعا لذلك.

لذلك كان دائما يبشر ولا يتوانى عن التبشير حتى في أحلك الظروف ... كنت أقول ونحن في أسوء المنعطفات - وكنا شبابا تفور الدماء في عروقنا: ماذا يقول هذا الرجل؟ وبماذا يبشر ؟ وكنت كما يقول البعض الآن متى نتوقف عن هذا التبرير ؟؟؟ والآن ها أنا أقول إنه وإن كان في التبشير بعض التبرير، فإن فيه ما هو أهم وهو اليقين والقدرة على تجاوز العراقيل والمثبطات و ما يقف حاجزا أمام وأد الحلم. وإذا وئد الحلم فلن تعيده معادلات العقل وحساباته ... المحرك الأساسي للتاريخ هي العقائد والعقائد وقودها خليط من الحلم والعمل ... نار ونور...

سلام عليك أيها الرجل الذي "قام" ولم يقعد، وسار ولم يقف، وتقدم ولم يتأخر ... سلام عليك في يقينك بالله، وفي صبرك الأيوبي، وتوكلك الهودي، ويقينك المحمدي ... سلام عليك وأنت تذيق الظالم في محبسك، ما نعلمه من تعذيب الضمير، وتنكيل الشيطان الذي أغواه وبعد أن أركسه في ظلمه يستمر في جلده ليزيد عليه من ثقل العذاب الدنيوي والأخروي ... سلام عليك أن استمررت في شجاعة بتقديم المثال وتقدم الأبطال، والتحقت بالمدافعين عن الحرية في سجن المرناقية لأنك لم ترض أن تكون خلفهم وأبيت إلا أن تتقدم صفوفهم، ولأنك كما قال عنترة : تغشى الوغى وتعف عند المغنم ...

سلام عليك لبعد نظرك ولسعة أفقك، ولشعورك بأن رسالتك تتجاوز الأني إلى القادم البعيد، فتركز نظرك للأجيال القادمة التي ما زالت في علم الغيب، ورأيت أنك مسؤول على أن تقدم لها هديا وسيرة ومثلا لبعث قادم ....

سلام عليك في كوكبة المجاهدين والصالحين بناة الانسانية وحماة القيم : قيم الحرية والكرامة والاستخلاف ....

تاريخ أول نشر 17\4\2024