search

ضد التعميم ... وضد اليأس من الناس

لا أحب التعميم ولا يقبله عقلي، وأحاول دائما أن أتحرى ذلك في تقديم رأيي في الأشخاص والتنظيمات والمجموعات وفي الشعوب ...

التعميم ضد طبيعة النفس البشرية التي تختلف اختلاف بصمات الانسان. وإدراك عناصر التشابه بين الناس لا يلغي بأي حال عناصر الاختلاف، وإدراك مستوى الفاعلية بين عناصر الاختلاف والتشابه دائما نسبي، ويحدث أن يكون لعناصر الاختلاف رغم ضعف نسبتها الدور الفعال في تحول الانسان والمجموعات وتتغلب على عناصر التشابه ...

باختصار يمكن أن نقول أن تركيب وتعقيد مكونات الإنسان فردا كان أو جماعة، يجعل توقع المفاجآة في سلوكه ممكنا جدا، وقد دلت التجارب والملاحظة الطويلة للسلوك الانساني على ذلك. هي مفاجأة بالنسبة لنا، ولكنها لا تخرج عن سنن السلوك الانساني التي مهما حاول الانسان اكتشافها على طول تاريخ البشرية إلا أن عناصر الخفاء فيها لا زالت تفوق ما انكشف منها.

وتحسب أنك جرم صغير ### وفيك انطوى العالم الأكبر

لكل ذلك أعتبر التعميم يغلب خطأه على صوابه، وضرره على نفعه، رغم أن الانسان قد يضطر إليه أحيانا كي يستطيع الفعل في الواقع، وهذا من "محنه" التي يلاقيها في الحياة.

لا أحب أن ننفض يدا من إنسان، ولا أن نحكم حكما عاما جازما في مجموعة، ولا أن نسم شعبا من الشعوب بالضعف والفساد، فحتى اللعن الذي أصاب اليهود من الله، إنما يقتصر عليهم كشعب وليس عليهم كأفراد، فقد أثبت التاريخ أن منهم الصالحون ومنهم المهتدون ونحن نعايش الآن ذلك.

لدينا خصوم في بلدنا فجروا في الخصومة وأعمت أبصارهم، ولم يتورعوا عن ارتكاب كبائر الاثم والفواحش الأخلاقية والسياسية، ولكنني أدرك أن السلوك الإنساني ليس تدبير عقل بارد واحتكام لقواعد منطق صوري جاف، إنما هو خليط من مشاعر وأحاسيس، والتباس بوقائع وحوادث، إما أن تكون معقدة بطبيعتها في الواقع، أو أنها تتعقد بمجرد ما يتم "رفعها" عن الواقع لتمثلها، كتلك العدسة التي بها خدوش تظهر على سطح الصورة الملتقطة وما هي منها، أو كزاوية الالتقاط التي تفرض بطبيعتها نقل جزء من الصورة ويتعذر عليها نقل جزء آخر، وحتى مستوى الألوان والإضاءة والسطوع يختلف مع ذلك.

نقول، هذا التيار الفلاني لا خير فيه وليس فيهم رجل رشيد وهم صنيعة الأجهزة إلى غير ذلك من الأحكام، ولكن الواقع يثبت لنا أنهم ليسو كلهم كذلك، وأن فيهم العقلاء وفيهم وطنيون صادقون، وفيهم الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون، والدليل على ذلك أنك واجد بالضرورة من بينهم من له أصدقاء من صفك، وأن فيهم من يحوز على احترام الناس وتقديرهم، وفيهم من امتلك شجاعة النقد الذاتي وقرر في يوم ما التمايز عنهم، فماذا تقول في ذلك وقد كان بالأمس داعيتهم الأكبر وصوتهم المسموع ؟؟؟؟

أعرف أن هناك تيارات تم اختراقها من قبل الأجهزة، وبعض الاختراقات وصلت إلى قمتها، والاختراق أداة عمل رئيسية للأجهزة، لكن الاختراق شيئ، والغالب أنه لا يسلم منه أي حزب أو تيار في دول تسلطية تنكر على الشعوب حريتها وحقها في الاختلاف، وفي أنظمة ديكتاتورية لا تؤمن بالديمقراطية والتنافس الحر. ذلك الاختراق شيئ، واعتبار تيار بأكمله أنه صنيعة أجهزة شيئ آخر غير مقبول بل غير ممكن واقعيا.

يمكن لي أن أتوسع في هذا الموضوع وأطنب في التحليل، وأعرف أنني لا أستطيع إقناع من يختلفون معي حتى وإن وصلنا إلى نقطة قريبة من الحسم والتوافق، لأنني أعرف أن في الطبيعة البشرية أمزجة ليس من السهل تغييرها، وقد لا يكون الخير في استواء الناس على صورة واحدة كي تستقيم الحياة، وهذا من عجائب هذا الكائن ومن عجائب حكمة الله في خلقه. ولكن كل طموحي أن يغلب المزاج المعتدل على المزاج المتطرف، والمزاج المتطرف هنا ليس فقط العنيف والحاسم والذي يميل إلى سوء الظن ونفض اليد من الناس، وإنما المزاج الآخر الذي يقف في الطرف المقابل متطرف أيضا، ذلك الذي لا يرى الدنيا والعلاقات إلا خيرا محضا وصلاحا كاملا و"من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر"،

كلما أطمح إليه هو أن "نملأ الوسط"، وأن نكون في سلوكنا في الوسط أو أقرب إلى الوسط، نخاصم دون أن نفجر وحتى عامتنا يقولون " خاصم وخلي للصلح مطراحه"، نحسن الظن بالناس ودون أن نستسلم لألاعيبهم وخداعهم، نتحمل من الناس ما يحرصون عليه من حفظ كرامتهم مقابل تنازلهم عن عنادهم وتقدمهم خطوات للجلوس او الوقوف معنا في دائرة الوسط.

الوصم والوسم والأحكام القاطعة مؤذية نفسيا لا يحتملها أي إنسان، والذي لا تحتمله في نفسك لا تتوقع أن غيرك سيحتمله، وما تتصوره بالنسبة لك بيّن لا يحتاج إلى دليل، وحق لا يحتمل الضلال، وصواب لا يخالطه الخطأ، هو عند غيرك عكسه تماما. ولا يهم في ذلك المحاججة المنطقية، وإنما التمثل النفسي المستقر عنده، وهذا من تعقيد الظاهرة الانسانية التي اجتهد العلماء والباحثون في كشفها، ولكنهم على تقدمهم في علاج أدوائها لم يبلغوا المنتهى فيها .... وهيهات ...

تاريخ أول نشر 2025/12/20