تخرج عبد الحميد مهندسا أول في الكيمياء في جوان 86، كنا ننتظر ذلك في قيادة الجامعة كي يلتحق بنا في العاصمة، لم نفكر لا نحن ولا هو في أنه من المفروض أن تنتظره ساحة الوطن بأكمله، فتخصصه يؤهله للصعود في "السلم الاجتماعي"، ليستفيد ويفيد الحركة، من خلال تعزيز حضورها في فضاء الإطارات. كنا منشغلين بتعزيز النخبة القيادية بمناضل وقيادي حرمنا من طاقته بعده عن مركز العاصمة.
ولم يفكر هو أيضا في غير طريق النضال الذي يبدو أنه أشربه مع حليب أمه. فوجئنا أن إدارة الحركة تترصد تخرجه و تريد إلحاقه بها. قال لنا "تفاهموا بين بعضكم وقولولي آش قررتوا" ... انتصرت إدارة الحركة وفازت بـ"طاقة متجددة" .... واصل بعد سجن 87 في إدارة الحركة .. افتككناه خريف 88 هو ومجموعة من القيادات التاريخية للجامعة - التي كانت تشكو نزيفا قياديا منذ 85 ... بل استلم قيادتها أشهرا قبل أن تسترجعه قيادة الحركة لإدارة مركب الإدارة والتنظيم حتى إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن 16 عاما.
كتب عبد الحميد في رسالة لأخيه عبد العزيز من سجنه، أنه عندما يقدر له أن يخرج من السجن "سينطلق من حيث تم إيقافه ليواصل المسيرة" ... جملة تلخص شخصيته وعقليته ومزاجه ... ومشروعه. عقله الهندسي الذي يبدو أنه هو الذي قاده لتخصص الهندسة لا يترك له مجالا للتأويل أو للغموض أو "تضييع الوقت".
و رغم انه مثقف وقارئ نهم في كل اختصاصات الانسانيات باللغتين، ومحب ومتابع للسينما وقارئ للشعر والرواية ومتذوق للموسيقى ... إلا أن كل زاده الفكري كان يوظف لعقله الهندسي العملي ...
عبد الحميد طاقة لا تنضب، وبلاء لا يعرف للراحة سبيلا ... وقدرة على ربط العلاقات، والتقاط العناصر النوعية، و نسج الشبكات بعقل إداري يؤثر الانجاز والعمل ... لعب دورا مقدرا بل رائدا في إعادة بناء التنظيم منذ خرج من السجن وتعاظم دوره بعد الثورة ... أنجز فيها مع إخوانه الشيئ الكثير برغم التحديات الداخلية والخارجية ... وعندما ضاق به الفضاء الحزبي، قرر وهو "الجاد" في حياته كلها، أن يفارق الحزب دون أن يفارق المشروع قيد أنملة ... يبدو أن نهمه للقراءة وتحديات الممارسة قد أربكت عقله الهندسي، وفرضت عليه تجاوز الانشغال بالإنجاز، إلى إعادة النظر في مقدمات الإنجاز أو ما يقتضيه الإنجاز ... فتناوشته "الأسئلة" التي كان كثيرا ما يدسها في سراديب العمل ... أفلح في دسها حينا من الدهر لكنها لم تمت وأطلت برؤوسها على وقع اشتداد التحديات ... كان ينجز بقليل من التساؤل، فوجد نفسه مطالبا بأن يفكر أولا دون أن يتخلى عن الانجاز ... كانت الحركة والحزب في ما بعد حجر الزاوية لديه، فأصبح الوطن بكل معانيه حجر الزاوية ... وجد نفسه متهما سريعا بالتآمر من أجل تحرر وتحرير الوطن من الانقلاب والاستبداد والفساد ... ويا له من تآمر "لذيذ" .... جمعه مع رجال الوطن بمرجعياتهم المختلفة .. من أجل وطن الجميع.
صديقي عبد الحميد ... لا أنسى أنك أهديتني كتاب محمد وقيدي : "ما هي الايستيمولوجيا؟" في سنة الباكالوريا، وقد علمتَ أننا نشترك في "بلوى" حب الكتاب والقراءة ... وكانت أثمن هدية ربطت بيننا ... فرقنا "نهم الإنجاز" مبكرا وجمعنا في نهاية المطاف "نهم القراءة" ...
أحييك في محبسك ... وأشد على يديك ... ومثلك لا تنكسر له راية ولا تلين له قناة ... وليس له طريق غير النصر.
تاريخ أول نشر 2023/9/25