search

على هامش أزمة الرسوم الجمركية: هل يكون ترامب غورباتشوف أمريكا ؟

ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية من زلزال اقتصادي غير مسبوق منذ إعلان الرئيس ترامب عن فرض سياسة الرسوم الجمركية على اكثر من 90 دولة في العالم وفي مقدمتها الصين دون ان يسلم من ذلك حلفاء امريكا التقليديين كالاتحاد الاوروبي واليابان، ينذر ببوادر ازمة اقتصادية خانقة للجميع بدءا بامريكا التي بدات فيها المظاهرات في معظم الولايات تعبيرا عن رفضها لما يحدث في البلاد وتعالي الأصوات المناهضة لهذا الإعصار.

عديد الاقتصاديين والخبراء وصناع القرار داخل امريكا وخارجها عبروا عن معارضتهم لهذه التوجه الذي يتبنى مقاربة الحمائية التجارية في اطار ما يعرف بالقومية الإقتصادية وهو توجه يتنكب عن النهج التقليدي الليبرالي الذي عرفت به امريكا وظلت تتحكم من خلاله في مقاليد النظام الاقتصادي العالمي وتفرض من خلاله كل السياسات على الموالين والعقوبات على المناكفين والمتمردين عن هذا النظام. وقد تتالت المواقف والتصريحات من هولاء من علماء اقتصاد مرموقين مثل جوزيف ستيغليتز وبول كروغمان وجيفري ساكس وغيرهم إلى جانب رؤساء سابقين وحاليين لأبرز المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك المركزي الأوروبي وحتى وزيرة الخزانة الأميركية اضطرت للتعبير عن تحفظها. لقد أجمع هؤلاء كلهم على ان هذه الاجراءات ستكون لها أوخم العواقب والتداعيات على الاقتصاد الأميركي اولا وعلى الاقتصاد العالمي ثانيا من حيث زيادة التضخم وارتفاع البطالة وتعطل سلاسل الإمداد وتراجع النمو وعودة الركود الذي بالكاد تخلص منه العالم بعد جائحة كورونا منذ اقل من خمس سنوات.

تعكس هذه الاجراءات العنيفة اذن خلفية حمائية في تناقض صارخ مع النظرية الليبرالية فضلا عن النظرية النيوليبرالية التي تسود معظم اقتصاديات العالم منذ عدة عقود والتي أبانت التجربة عن فشلها في ادارة الاقتصاد العالمي والحفاظ على التنافسية الايجابية بين الأقطاب الكبرى البارزة في الساحة الدولية وهو ما أدى إلى لجوء هذه الدول إلى تاسيس مجموعة البريكس والبريكس + تعبيرا عن رفضها للهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي وإعلانا عن تمردها على النظام النيوليبرالي المتوحش. وقد بادرت هذه المجموعة بمحاولة التخلي عن الدولار في مبادلاتها التجارية البينية باستخدام المقايضة بين عملاتها المحلية مما أثر بشكل ملحوظ على مكانة الدولار في النظام النقدي العالمي.

وتراوحت مواقف الأطراف المتضررة من هذه الاجراءات الامريكية بين التصعيد والتصعيد المضاد إلى النهاية وهو ما عبر عنه الموقف الصيني بكل وضوح واستماتة وبين تاجيل التنفيذ وإعطاء فرصة للمفاوضات مع الاستعداد لخوض الحرب التجارية عند الضرورة وهو مضمون الموقف الأوروبي الذي بدى موحدا هذه المرة.

وفي حين تشير تقديرات المحللين والمتابعين لتطور الاوضاع إلى وجود ثلاثة سيناريوهات محتملة لهذه الأزمة: التهدئة او التراجع النسبي، او استمرار الوضع الراهن او التصعيد المفضي إلى الحرب التجارية واندلاع أزمة اقتصادية عالمية جديدة لا تقل خطورة عن سابقاتها، فان الاراء تتجه الى ترجيح السيناريو الاخير وهو الاكثر خطورة وكارثية على جميع الأطراف. يعزز هذا الترجيح اختلال ميزان القوة بين القوتين الأساسيتين في العالم الولايات المتحدة والصين. ففي حين تعاني الاولى من ازمة مديونية خانقة وغير مسبوقة (36 تريليون دولار) حققت الثانية فائضا ماليا يزيد عن 3 تريليون دولار. كما تعززه سياسة التعنت ولي الذراع والتصعيد المتبادل بين الطرفين التي يغذيها صعود الشعبوية السياسية في كلا الجهتين.

ينطوي هذا السيناريو الكارثي على مخاطر جمة على مختلف المستويات الاقتصادية والمالية والتجارية والسياسية، وهي تساهم في زعزعة الاستقرار وتغذية الفوضى والتوترات المحلية والاقليمية والدولية في ظل تصدع متزايد للنظام الدولي وترهله وتشوّف العالم إلى نظام دولي جديد أكثر انسانية وسلام وعدالة اجتماعية.

ان الايام المقبلة ستكون حبلى بالاحداث والتطورات. فالعالم يعيش حالة من الاختناق الاقتصادي في مناخ ما قبل الأزمة وهو وضع شبيه بالمناخ الذي سبق ازمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.

ان ترامب بسياسة الرسوم الجمركية والحرب التجارية، خاصة مع الصين، يقدّم رؤية انعزالية قومية (أمريكا أولًا)، وكأن تيار الأمركة تغلب على تيار العولمة، ويريد إعادة بناء الصناعة الأمريكية وتقليل الاعتماد على الخارج. لكن الكثيرين يرون أن هذه السياسات قد تضعف النظام الاقتصادي العالمي الذي كانت أمريكا تقوده منذ الحرب العالمية الثانية.

قبل ربع قرن من الزمن أطلق رئيس الاتحاد السوفييتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف دعوته لاصلاح النظام الاشتراكي المهترئ من الداخل (عبر البيريسترويكا والغلاسنوست)، لكنه في النهاية عجّل بانهيار الاتحاد السوفيتي — ليس لأنه كان يريد تدميره، وإن كان ذلك غير مستبعد في المطلق، بل لأنه حاول إنقاذه بطريقة لم تنجح

فهل يكون ترامب “غورباتشوف أمريكا”؟ وهل ستقود سياساته إلى تفكيك الولايات المتحدة على غرار الاتحاد السوفييتي السابق؟ وهل هي نهاية نظام بريتن وودز ومؤسساته؟ وهل آن الاوان لتحول العالم لنظام اقتصادي دولي جديد؟

يبدو ان المؤشرات لحد الآن تشير إلى ذلك

تاريخ أول نشر 2025/4/14