search

عن الاختراق الشيعي لتونس .... متى تستوعب إيران الدرس؟

أول ما وصلنا من الكتابات الشيعية كتابات محمد باقر الصدر وخاصة كتاب اقتصادنا. وقد كان لنا في ذلك الوقت بمثابة "الفتح العظيم". فقد سد لنا فجوة من حيث تقديمه لرؤية إسلامية نواجه بها الرؤى الماركسية خاصة. واستمرت كتب الصدر : اقتصادنا وفلسفتنا والأسس المنطقية لأستقراء والبنك اللاربوي في الإسلام متربعة على عرش الكتب-المراجع لنا حتى أوائل الثمانينات.

لم نكن في البداية نعير اهتماما لمذهبه الشيعي، الذي لم يكن مطروحا لدينا كإشكالية. وحتى عندما بدأ تعرفنا على المذهب الشيعي بعد انتصار الثورة الإيرانية، لم يكن الموضوع يثير حساسية عندنا، وكنا نقول باقر الصدر مفكر عبقري لكنه في العقيدة تقليدي مذهبي حتى النخاع.

كان لدينا أريحية التفريق بين رؤاه الفكرية التي تجمعنا بها القواعد العقائدية الكبرى في الإيمان بالله وبالاسلام وبالرسالة، التي تتجلى من خلال كتبه التي لا يشوبها دخن التمذهب حتى في الأصول التي تقترب من المذهبية والمتعلقة بالإمامة.

هذا التفريق تم استصحابه في الموقف السياسي من الثورة الإيرانية وإيران، وقد بدا لنا بما لا يشكل أي هاجس، أن ما يجمعنا بالثورة وإيران على صعيد الموقف السياسي وحتى على صعيد الفكر السياسي أكثر وأكبر مما يفرقنا. لذلك احتفينا بها ودافعنا عنها، حتى وصل الأمر إلى أن الإتجاه الاسلامي حوكمت قيادته مرتين بتهم الارتباط بإيران.

وقد انفتحت الحركة الاسلامية في تونس على الأدبيات الشيعية الإيرانية والشيعية العربية بشكل لا تكاد تجد فيه أي تحفظ، على مستوى التكوين التربوي والتثقيف والتكوين العام. فكانت كتب الشيعة ومجلاتهم وأشرطتهم المسموعة والمرئية تتداول بأريحية خاصة في الأوساط الطلابية.

ومن الملاحظ أن ما ساعد على ذلك، أن الجانب الشيعي الإيراني و الشيعي العربي، كان يبدو واعيا بحساسية التعرض للخصوصيات المذهبية الشيعية، التي يعلمون أنها تستفز السنة، فلم تحتوي منشوراتهم العامة التي تصلنا شيئا من ذلك، وما يصلنا منها هو ما لا يثير حساسية كبيرة لدينا، كالموقف من معاوية ويزيد، والتعرض لهما بالنقد الشديد، وما تحملة بعض نصوصهم الأدبية من شعر وخلافه من التشنيع عليهما، ذلك أنه معلوم أن الإتجاه العام للحركة الإسلامية لا يختلف في نقده لتلك الفترة التي يعتبرها انتقال بالخلافة من الشورى إلى الملك العاض، ولما تعرض له الحسين وصحبه في مجزرة كربلاء.

وحتى عندما بدأت بعض أجنحة إيران تشجع على تكوين اتجاهات طلابية ذات ولاء إيراني ممثلا في ما عرف بـ"خط الإمام"، فإنه قد استمر الموقف العام المساند لإيران، ولم يتطلب التفاعل مع "خط الإمام" غير الحوار وبعض الجدل الصاخب أحيانا، ذلك أنه لم يكن أكثر من التزام وولاء سياسي ليس فيه شيئ من التمذهب العقدي والفقهي الشعائري.

ورغم أن التمذهب الشيعي العقدي قد تسلل مبكرا إلا أنه بقي محصورا في أفراد قليلين كان أشهرهم "مبارك بعداش"، الذي كان قد تم إستبعاده من تنظيم الحركة فبيل الثورة الإيرانية بقليل، وكان تشيعه أقرب إلى رد الفعل منه إلى الاقتناع. ورغم جرأته وشجاعته التي عرف بها من قبل، إلا أن نشاطه بقي امتداده محصورا.

وربما نشأت هنا وهناك مجموعات صغيرة، إلا أنها بقيت على الهامش، والأهم أنها كانت بعيدة عن الجهر بما تحمله العقيدة الشيعية التقليدية من مظاهر اللعن والسب والثلب في كرام الصحابة والصحابيات، أو الجهر بالمعتقدات الشركية، والمعتقدات المتطاولة على مقام النبوة وحتى على مقام الإلوهية، التي تطفح بها كتب الشيعة بل وبعض قنواتهم وفيديوات دعاتهم، وأيضا مواكب اللطم والتطبير وتأسيس الحسينيات التي كانت سرية ثم ظهرت للعلن أخيرا.

ورغم الجرح السوري في بداية الثمانينيات، والذي تجلى فيه انتصارهم لحافظ الأسد وسكوتهم عن مجازر حماة وسجن تدمر وجسر الشغور، ورفضهم مناصرة الثورة السورية يومئذ، أو حتى الوقوف على الحياد، إلا أن موقف الحركة الاسلامية تعامل مع الموضوع من باب الاختلاف السياسي، ومن باب بعض التبرير لضرورات الدولة التي يحيط بها الخصوم من كل جانب وسعيها لاختيار الأقل سوءا، في محيط استولت عليه أمريكا وجعلت من أغلب الدول العربية أعداء للثورة.

كما أن الحركة الاسلامية قدرت وقوف إيران مع القضية الفلسطينية، فغضت الطرف عن كل ملاحظاتها، بما فيها ما فرضته من هيمنة على الساحة اللبنانية بتوافق مع النظام السوري، وتحجيمها لدور "الجماعة الاسلامية" هناك، خاصة وأن الجماعة الاسلامية نفسها تعاملت مع الموضوع في إطار خضوعها لضرورات الساحة.

نستطيع أن نقول أن الموقف العام بقي يحكمه الإطار السياسي في كل أبعاده، وينتقل من التأييد في قضايا والتحفظ في قضايا أخرى، والتعاون في قضايا والافتراق في قضايا أخرى من الجانبين، بحسب ما يلقى على الطرفين من الضرورات والحاجات والفرص والتحديات والمخاطر.

وحتى عندما استثمر النظام التونسي الوضع وقام بتطبيع علاقاته مع النظام الايراني وتحولت قناة الميادين إلى بوق دعاية للنظام واستلمت تمويلات من وكالة الاتصال الخارجي، لم يخرج الموقف عن دائرة النقد واللوم .

ومع الربيع العربي شهدت العلاقة محاولات للتعاون وتبادل الزيارات وذهبت وفود من النهضة لإيران وحضرت قيادات النهضة المناسبات الاحتفالية الرسمية التي تقيمها السفارة وكان آخرها احتفال حضره الشيخ راشد بعد الانقلاب.

لكن الموقف أخذ أبعادا جديدة مع ما حمله الربيع العربي من حرية، وقبلها ثورة الإعلام الرقمي والفضائي، وما حملت من انكشاف للوجه الشيعي المغالي والمتطرف، الذي قذف للساحة كل قضايا الخلاف المذهبي بصور فجة موغلة في التطرف المذهبي، مزهوة بما استولت عليه من الساحات العربية مما سيسمى في ما بعد الهلال الشيعي.

وامتدت وتنامت عمليات الاختراق الأخرق، غير عابئة بما تثيره من فتنة طائفية، لم تفلح في وأدها محاولات وضع "قواعد سلوك"، دعا إليها علماء السنة وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي الذي بذل جهودا كبيرة جدا في التقريب والتقارب وانتهت محاولاته بيأس من استعداد الشيعة للتراجع عن سياستهم في التشييع في المناطق السنية بل والتآمر عليها وانتهى به إلى كتابة مؤلفه: وقفات مع الشيعة الإثنا عشرية التزم فيه برغم كل ما حصل وبرغم الحملات التي شنت ضده بموقفه الوسطي المعتدل وتحقيقه العلمي الرصين.

لم يترك الجرح السوري الجديد والجرح اليمني ومن قبلهم الجرح العراقي، وما ارتكب من مجازر وقتل على الهوية، وتورط حزب الله في سوريا، وتآمر أنصار الله في اليمن على حزب الاصلاح، ومشاركتهم الفاعلة في ارتكاب المجازر المروعة، وتحالفهم مع من يدعون أنهم أعداؤهم في عمليات مركبة من التنسيق وتبادل الأدوار.

لكن الجرأة لم تقف عند تلك الحدود، بل إنها اقتحمت الديار التونسية مستثمرة علاقة مشبوهة مع الانقلاب، لتتمدد من خلال شراء ذمم نخبة تأكل من كل الموائد، ومسكونة بالعداء الوجودي مع الاسلاميين، فظهرت شيئا فشيئا تقدم مروياتها المضللة، وتنشئ حسينياتها، وتمارس ضلالاتها وجهالاتها.

فهل تستوعب إيران الدرس وتكبح جماح أجنحتها المتطرفة الرسمية والشعبية، وتتخلى عن ممارسة الفتنة بين المسلمين أم تواصل عنادها؟ وعندئذ لن تجد إلا ما يسوؤها ... ولن تنال مما تفعله من إثارة الفتنة إلا الخزي والبوار ...

اغترت إيران بقوتها وأذرعها، وما أنفقته من أجل إنشاء طابور خامس في بعض البلدان الاسلامية مثل تونس، مكون من أنشطة ثقافية بتمويلات سخية، وعلاقات مع نخب مرتزقة، وتشجيع للتدين الطائفي بممارساته المناقضة لروح التدين التونسي الوسطي، الذي يحب آل البيت ولا يقدسهم، ولا يؤمن بعصمة أئمة تتجاوز عصمة الأنبياء، فضلا عن الخرافات والمعتقدات الفاسدة التي تعج بها مروياتهم ومعتقداتهم.

العاقل يقول أن إيران تحتاج مراجعة شاملة لسياستها في التعامل مع المنطقة السنية، وتدفن أحلام تصدير الثورة، فضلا عن السطو على الفضاء السني، فهو عصي عن الاستسلام، وهي محتاجة إلى دعمه ومساندته لا استعدائه ومناكفته.

وعسى أن تكون أحداث هذه السنة المليئة بالدروس لإيران، مناسبة لمراجعات جذرية لخياراتها الاستراتيجية، بما فيها المراجعات العميقة لأصول المذهب الذي بدأت بواكيرها مع عدد لا زال قليلا من مفكري الشيعة ومراجعهم كأحمد الكاتب وكمال الحيدري، ولكنها مراجعات عميقة وجريئة يحتاجها الشيعة كي يؤوبوا إلى حضن الأمة الجامع.

تاريخ أول نشر 2025/6/28