search

في علاقة بالاتحاد العام التونسي للشغل

1. أنا، مبدئيّا منحاز ضدّ السلطة، أيّ سلطة، ولا يمكن أن أكون في صفّها مهما كانت درجة رضاي عنها ولست أراني أرضى عن أيّ سلطة مهما فعلت ومهما كانت خلفيتها. السلطة، في فهمي مجعولة لتُعارَض لأنّ في معارضتها العاقلة تقويما لها، وكلّ سلطة في حاجة إلى تقويم لأنّ الانحراف بالسلطة بنيويّ فيها.

ولا يمكن لي أن أنصر سلطة ضدّ خصم لها مهما كان هذا الخصم ولو كان الاتحاد العام التونسيّ للشغل الذي اختارت قيادته أن تنحاز إلى السلطة الغاشمة ضدّ خصومها بحجج واهية فكانت سببا رئيسًا في وأد حلم بالديمقراطية عملت عليه أجيال من التونسيّين.

2. لست شامتا في الاتّحاد ولا أنا مع الذي يتعرّض له. ولست من الذين يجهزون على جريح مهما كان سوء الجريح. الاتحاد جسم وسيط دوره الطبيعيّ أن يحميَ الناس من سطوة السلطة وأن يقف في وجه ظلمها.. وهذا، في الأصل، واجب عليه. ولست في وارد التشفّي من هذه القيادة رغم ما فعلته بنفسها لمّا قرّرت بكامل إرادتها أن تكون عونا على سحل الديمقراطية وماعونًا للتنكيل بالسياسة وبالأحزاب وساندت إغلاق برلمان الشعب بدبّابة. بل لست أرى اللحظة مناسبة لمحاسبة القيادة النقابية على غبائها لمّا كانت ترقص للفّ الحبل حول المؤسّسات الوسيطة الأخرى ولم تفهم أنّها إنّما كانت تلفّ الحبل حول رقبتها. هذه القيادة لا تفهم أنّ الغشيم شَرِهٌ وليس لشراهته حدّ. لقد كانت بدورها غشيمة وشرهة. ولعل شراهتها هي التي ضاعفت من حماقتها.

ساعدت قيادة الاتحاد، بما توهّمت، وأوهمت، من قوّتها، السلطةَ على التهام غيرها ونسيت أنّها حين تبقى وحدها ستكون أهمّ لقمة سائغة تقع في فم سلطة لا تزال تبحث لها عن بطولة تُعلي شأنها وتثبت بها مشروعيتها. المشروعية بعديّة أدائيّة وليست افتراضيّة قبليّة.

3. لن نطالب قيادة المنظّمة بالاعتذار عمّا ارتكبت، لأنها لن تعتذر ولأنّ الاعتذار لا يعني شيئا. الاعتذار مقام رفيع يستصحب استعدادا للنقد الذاتي. وقيادة الاتحاد لا يمكن أن تكون صادقة في ما يمكن أن تنقد به ذاتها. ولو نقدت ذاتها لاتّهمتْها ولأعلنت استقالتها على الفور، لأنّ ما ارتكبته كان خطايا ولم يكن مجرّد أخطاء.

الجهل والسلطة والمال إذا اجتمعت لا يَنتج عن اجتماعها ما يفيد الناس ولا ما ينفع الوطن.

4. بعض الأصدقاء يتحدّثون عن ضرورة الانحياز إلى الاتحاد مهما كانت خطايا قيادته. ولكنّ ذلك يكون له معنى لو أنّ المنظّمة غيّرت موقعها وصحّحت موقفها وقرّرت الوقوف في وجه السلطة وأدانت مظالمها ودافعت عن المظلومين. وقتها يكون الانحياز ذا معنى. ولكنّ واقع الحال يقول إن السلطة تفعل ما تشاء والاتحاد مساند لها في كلّ ما تفعل بلا أدنى مساءلة. السلطة تحرق الأخضر واليابس والاتحاد لا يسمع ولا يرى ولا يتكلّم مثل حوزة صامتة.. أو مثل عذراء فهمت أنّ موافقتها في سكوتها. السلطة جشعة لا تشبع ولكنّ قيادة الاتحاد لا تزال تطمع في أن تجد لها موقعا في ظلّها لا أكثر.

السلطة لم تكن تريد الاتحاد. هو جسم وسيط ولا فرق لديها بين مختلِف الوسائط. كلّ ما في الأمر أنّها كانت تؤجّل حربها عليه ولا أظنّ الأمر كان خافيا على أحد. الآن قرّرت السلطة تصفية الاتحاد وساعدتها القيادة النقابية بأن قدّمت لها الحجج التي تبرّر بها تصفيتها. لقد كانت هذه القيادة أكبر جناية على المنظّمة التي تقودها.

فهل بقي الانحياز إلى المنظمة ذا معنى؟

5. بعض قيادات الاتحاد لا تزال تراوح مكانها في موقفها من الذي حصل في 25 جويلية ولا تزال تنتظر إيماءة واحدة من زعيم المسار الذي انخرطت فيه طوعا لتدخل مهرولة إلى بيت الطاعة راضية مرضيّة بلا أدنى تردّد.

المشكلة أنّ السلطة هي التي لفظت الاتحاد بعد استعماله وبعد انتهاء خدماته. لقد عرفت كيف تستعمله في تجريف السياسة.

السلطة استعملت أحزابا ولفظتها ووظفت هيئات ومنظمات كان الاتحاد من أهمّها. والتخلّي عنها يكون بمجرّد الاستغناء عن خدمتها.

لقد وقف الاتحاد ضدّ الحرية والديمقراطية في أكثر من مناسبة. الآن، يلتفت فيجد نفسه عاريا لا يملك أن يحميَ نفسه ولا يجد أحدا ذا وزن يناصره. اختار طوال العشرية أن يلعب خطّة الهجوم وهو الآن أعجز من أن يدافع عن مقرّه.

فما الذي يعنيه أن تقف مع قيادة لا تزال ترفض أن تصنّف نفسها خارج صفّ السلطة كما لم تفعل قيادة في تاريخ المنظمة في علاقتها بالسلطة السياسية؟.

6. الذي تغيّر أن الديمقراطية كانت جديدة على البلاد . الديمقراطية لها أنصارها ولها أعداؤها وقد اختار الاتحاد أن يكون من أظهر أعدائها. لما اطمأنّت القيادة إلى وضعها مرّت بقوة إلى فرض الفصل 20. وكان ذلك ممّا سرّع بنهاية المنظّمة. بل يمكن أن نقول إن تعديل الفصل 20 من قانون الاتحاد قد ساعد على التعجيل باستعمال الفصل 80 من دستور2014 .

انتهزت القيادة النقابية فرصة انهيار المسار الديمقراطي لتغرز خنجرا جديدا في ظهره باستيلائها على المنظّمة بشهوة التمديد.

غير أنّ مشكلة الاتحاد تزداد استعصاء حين ترى أنّ من خصوم هذه القيادة المنقلبة على القانون أشخاصا من قبيل كاتب عام جامعة التعليم الثانويّ السابق الذي لا يقلّ عداوة للديمقراطية وللحريات عن سامي الطاهري.

كان في الاتحاد عاشوريون ومستقلّون وإسلاميّون وقوميّون، غير أنّ بن علي نجح في تجريفه عندما أقصى الإسلاميين.

أقصي الإسلاميون من وظائفهم وطوردوا في كلّ مكان حتّى أُخرجوا من الحياة عموما عندما جعلهم بن علي هدفا لمحرقة استحلّ فيها دماءهم. وفي مقابل ذلك قرّب اليسار والقوميين خصومهم في الجامعة. كان يمكن أن ينتفض الاتحاد ضدّ الذي جرى لكثيرين من منخرطيه. ولكن لأنهم إسلاميون فإنه لم يعترض على الجريمة ببيان واحد. وضاع دم الإسلاميين بين قبائل الاتحاد وبين التجمّع. نسي خصوم الإسلاميين أنّ إقصاء الجزء مقدّمة للسيطرة على الباقي. الإقصاء يبدأ جزئيّا وينتهي كليًّا.

7. بن علي ساعد الوطد وذيولهم من القوميين على الاستيلاء على الاتحاد وجعل منهم عيونه على الطبقة العاملة حتى صار الاتحاد ناديا ممنوعا على تيار الإسلام السياسيّ الذي لم يكن يخشى غيره على نظامه. لقد جرّد المنظّمة من جميع أسلحتها وألحقها بنظامه لتكون مجرّد تنويعة عليه. وحجّة ذلك ما كان من موقف المركزية النقابية من الثورة حتّى يوم هروب بن علي. لذلك كانت المركزية حتّى بعد تجديدها ضدّ الانتقال الديمقراطيّ. واستخدمت في ضديتها قوتها التي أورثها إياها المخلوع. بهذا نفسر موقفها من حدث 25 جويلية وانحيازها إلى "المسار".

صحيح أنّ أغلب قيادات المنظّمة تصنّف نفسها يسارا، ولكنّ السلطة نجحت بثنائية الجزرة والعصا في أن تجعلها على يمينها. كانت شهوة استئصال الإسلاميين مشتركة بين السلطة وبين المنظّمة، وكانت مقدّمة لدى القيادات النقابية على الدفاع عن العمّال وعلى فرض حقوقهم.

ما فعله بن علي بالاتحاد لا يزال قائما. خلل هيكليّ أصاب منظّمة حشّاد جعلها يمينا متطرّفا واقفا في وجه كلّ تغيير ديمقراطيّ يقطع مع منظومة الاستبداد.

8. قد يسألني البعض عن الحلّ. النص لا يدّعي تقديم حلول. مقصده التفاعل مع الذين يرون ضرورة دعم الاتحاد في حرب السلطة عليه. دعم الاتحاد لا يجدي شيئا، بل سيكون في خدمة المنظومة القائمة. السلطة لا تعترف لها بشريك ولا ترى وسيطا بينها وبين الشعب الذي تحتكر الحديث باسمه. وهذا أمر لا يمكن أن تفهمه قيادة الاتحاد، خاصة بعد أن تورّطت في انحيازها اللامشروط إلى السلطة.

تاريخ أول نشر 2025/8/16

الحلّ في أن تغيّر القيادة النقابية موقعها إلى جهة اليسار، وهذا مستحيل لأنّ أي معارضة للسلطة حتى في صيغة مطلبيّة سيصبّ في مصلحة الديمقراطية، والديمقراطية باب مفتوح على الإسلام السياسيّ، وهذا منفيّ من عقول خصومه رغم تجذّره في واقع الناس. الناس في منطق السلطة والاتحاد كليهما لا يحكمون، إنما يُحكَم لهم ويُحكَم بهم.