search

قطر ... الجزيرة وغزة

ليس غريبا أن تكون قطر دائما في قلب الاستقطاب الذي يحكم النخب وحتى الرأي العام العربي بل وحتى العالمي. ذلك أن الخيار الذي اتخذته منذ استلم حكمها الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، كان خيارا غير تقليدي في خيارات الحكام العرب الملكيين والجملكيين.

وفي إطار القراءات التآمرية التي تعتبر أهم أدوات التحليل زمن الحرب الباردة، اعتبر ما أقدمت عليه قطر، لا يعدو أن يكون تكليفا بمهمة من الحاكم الأوحد أمريكا، خاصة وأن التحول في السياسة القطرية قد ارتبط بمجيئ "الأمير الوالد"، وباتفاقية منح ترخيص لبناء قاعدة العديد، التي تعتبر أكبر قاعدة أمريكية في منطقة الخليج.

لست من أنصار الرؤية التي ترى أن السياسة في عالمنا العربي يمكن اختصارها في: "أمريكا تأمر والحاكم العربي ينفذ". لقد أثبتت كثير من الوقائع والأحداث التي كشف الغطاء عن أسرارها أو بعضها، أن الأمر لم يكن بمثل تلك الصورة الكاريكاتورية. فالأمر تحكمه موازين القوى السياسية، ويخضع لعوامل كثيرة واستراتيجيات وتكتيكات يمارسها الحاكم العربي من أجل المحافظة على كرسيه، وهو الشيئ الذي قد يقدم فيه الحاكم العربي على الإنتحار ولا يتركه.

لا نحتاج إلى جهد لنقتنع أن موازين القوى تجعل أمريكا ذات يد عليا في أي علاقة. كما لا يحتاج الأمر جهدا لنقتنع أن قطر ليست لا دولة كبرى في ذاتها وبالطبع ليست دولة ذات نفوذ إقليمي. ولا أتوقع أن حاكمها كان يفكر أن يتحول إلى دولة إقليمية. فهو يعرف أنه يفتقر إلى مقومات بنيوية موضوعية كثيرة، وأن قدرته المالية المتأتية أساسا من مخزونه الغازي لا تكفي وحدها.

لكن الذكاء والحنكة دائما ما كانت في حسن استثمار عناصر القوة المتوفرة عندك، وتحويلها إلى لاعب حيوي في تموقعك. كما أن الذكاء والحنكة أيضا تتمثل في قدرتك على اختيار مجالات التأثير المعنوي والاستثمار فيها. فأن تكون قطر قد اختارت أن تستثمر في الإعلام، وأن تجني ثمار ذلك رصيدا لقوتها ومكانتها، لم يكن ذلك بدعا من الاختيار السياسي، فقد سبقتها في ذلك السعودية. لكن الذكاء القطري هو في جرأتها ودخولها عالم الإعلام من باب الحرية، وهو ما لم تقدر السعودية على تحمله في تجربة ب.ب.س العربي ولا قبلها في تجربة أم.ب.س.

الخيار السياسي الثاني الذي انتهجته قطر هو الانفتاح على المعارضة العربية أحزابا وجماعات ومفكرين ونخب مثقفة. وحتى في هذا الخيار الذي انتهجته قطر لم تكن البادئة فيه. لقد انتهجته بعد أن استثمرت فيه السعودية وبعض الأنظمة الجملكية وفشلت فيه. ومرة أخرى دخلته قطر من خلال الحرية.

الخيار الثالث هو خيار دعم القضية الفلسطينية، ومرة أخرى تدخل قطر من باب الحرية. التعامل مع أصحاب القضية والأرض من باب الدعم والمساعدة لا الإملاء والتوجيه والتوظيف.

وهكذا فمن قبل أن تلج قطر هذه الخيارات ومن بعد حيث كانت للمنطقة تجارب، كما حاولت بعض البلدان منافسة قطر لما ولجت هذا التحول، لكنها فشلت لأنها لم تكن تؤمن بالحرية وإنما بالتوظيف وأهم تلك البلدان الإمارات.

أن تكون قطر قد اختارت تلك الخيارات من خلال استقرائها للوضع والتجارب معززا بروح قومية عربية إسلامية، واستثمارها لعلاقتها مع أمريكا والغرب عموما، أو أنها قد اعتمدت تلك الخيارات من خلال توجيه امريكي، فإن ذلك لا ينزع عنها صفة الذكاء والمسؤولية والروح الوطنية والقومية والاسلامية، ذلك أن غيرها اختار أو قبل أقذر الأدوار ليقوم بها.

رأيي أن قطر قرأت الوضع جيدا، وبحثت عن مصلحتها كذلك، واختارت لتحقيقها ما يضمن فرادتها، وما لا يطعن في كرامتها، وكل ذلك بشعور قومي وإسلامي لا جدال فيه.

لكن قطر تعلم أنها تتحرك في حقل ألغام، وتعلم أن أشدها تلغيما أقربها لحدودها. وكانت تعرف أنها لن تحصن نفسها إلا من خلال تميزها وتوفير وسائل تحصين غير تقليدية، بمعنى غير تلك التي تعول على المقومات المادية وحدها، فهي تعرف أنها دولة "صغيرة الحجم قليلة عدد السكان وذات موقع جغرافي محاصر "، كما تعرف أن التعويل على الحماية الأجنبية وحده لا يكفي وخاصة الأمريكية. وقد صدق الواقع ذلك، فرغم وجود قاعدة العديد الأمريكية، فإن ترامب - تاجر العقارات المخادع الجشع - لم يتوانى عن إغماض عينية عما دبر له الرباعي لقلب نظام الحكم في قطر والاستيلاء عليها غزوا. لقد صدر الموقف الرباعي مباشرة بعد زيارة ترامب للسعودية واجتماعه بقادة الرباعي هناك. ولا زالت فيديوات محمد بن زايد وهو يبتسم ويترنح طربا حين التقاط صور تذكارية للزيارة.

لم تشذ قطر عن الخيارات العامة للحكومات العربية بخصوص القضية الفلسطينية، ولكنها عرفت كيف توظفها لصالح القضية ومن دون أن تطعن القضية من الخلف.

لم يقل أحد أن قطر تصرفت كقوة عظمى، وما كان لها أن تفعل ذلك وهي أعلم الناس بوزنها، لكنها تصرفت بذكاء كبير وشجاعة وصدق خانتا الآخرين.

لقد كانت الجزيرة عنوان المفاجأة والتحدي القطري. ومن ينكر دور الجزيرة الجوهري في نقل المنطقة من حالة التدجين والتدجيل وقتل الوعي إلى حالة الحرية والسيادة الاعلامية فهو مكابر لا ينفع معه الحوار وتقديم الحجج.

وعندي لو لم يكن لقطر من حسنات إلا الجزيرة لكانت كافية لها لنقول لها: إفعلي ما شئت.

ولذلك خاضت قطر حروبا خفية وعلنية بسببها، ودخلت في صدامات ديبلوماسية بسببها، وتحملت أذى كثيرا بسببها، واضطرت في مراحل كثيرة إلى القيام بتنازلات، وكادت في مرحلة ما أن تقفلها، ولعب في ذلك الكثيرون أدوارا قذرة ربما كان أقلها الضغط الغربي.

لقد نقل لنا الكثيرون القريبون من مطبخ الجزيرة كيف عملت قطر بذكاء من اجل امتصاص الصدمات التي كانت تأتيها بسبب الجزيرة، لكنها تمسكت بها، ورضيت أحيانا أن تقوم ببعض التنازلات، ودون أن تتخلى عنها كما هي الجزيرة بمهنيتها ورسالتها.

شخصيا أقدر عاليا ذكاء حكام قطر ومرونتهم السياسية، تلك المرونة التي لم تفقدهم الشجاعة في التمسك بنقاط القوة في خياراتهم، والتي هي التي حققت وتحقق لهم مصالحهم.

وعندما نعبر عن خشيتنا وتخوفنا وندعو للتعبير عن عدم الرضا عن التحولات التي يبدو أن القيادة القطرية اضطرت، لها فإننا ننتصر للجزيرة، وننتصر للقيادة القطرية، ونوفر لهما الحجة والذريعة لكي لا يكون سيف الضغوط المسلط عليهما يحقق غايته.

وهو نفس الموقف إزاء ما يبدو من ضغوط لتحويل دور قطر كوسيط إيجابي يخدم قضية الأمة، إلى أداة ضغط على مقاومتها. إن قطر لا شك أنها تفعل ذلك كارهة إن ثبت ذلك، ولأنها تشعر أنها وحيدة وليس لها إلا من يطعنها من الخلف. وهي في نفس الوقت تدرك حجمها وقدرتها وتفعل ما تقدر أنه الممكن وأحيانا يكون الممكن هو فقط أهون الشرين.

مع أنني شخصيا أشيد بشجاعة حكامها، وأتفهم مناوراتهم في ساحة مليئة بالخيانة وبيع الذمم في سوق النخاسة الذي أصبح في هذا الزمن على المباشر.

تاريخ أول نشر 2025/10/03