search

لم لا نكون صحائف الخير والنماء والتعمير؟

ليس هناك من لم يخطئ خطأ فاحشا في حق الوطن، رموزا ونخبا وأحزابا ومنظمات كبرى ومؤسسات وأجهزة دولة رئيسية ومفصلية. وكلهم بدون استثناء يعتبرون الابتدار بالنقد الذاتي وقوع في ما وقع فيه أبو موسى الأشعري من "سذاجة" أمام "ذكاء وحنكة" عمرو ابن العاص ... لذلك يتجنبون النقد الذاتي بل ويتجنبون أي فعل يمكن أن يفهم منه نقدا ذاتيا وإقرارا بالخطأ واستغفارا من الله ثم من الشعب عما فعلوا.

ولأنهم جميعهم تونسيون "أولاد تسعة أشهر" فحيلهم واحدة و"شيطانهم واحد" و "جنهم واحد" وإن اختلفت الأزياء ورطنوا بلكنات مختلفة. كلهم يمتحون من فضاء نفسي واجتماعي وتاريخي وانتروبولوجي واحد. لذلك تشابهت الوقائع والنتائج في أزمنة ممتدة عبر تاريخ هذا البلد. بعضها من سنن الاجتماع والتاريخ التي تجري علينا وعلى غيرنا من المجتمعات، وبعضها من ثقل القاعدة النفسية والاجتماعية التي تشكلت عبر التاريخ وطبعتنا بطباعها، والطبع يغلب التطبع. والتطبع يحدث أثره بشكل جزئي لا يكاد يلاحظ. تتشربه المجتمعات بشكل بطيئ جدا، دون أن يتمكن من تغيير قاعدتها النفسية التي هي أس كل تغيير ،إلا إذا حدثت تغييرات بنيوية عميقة جدا، تسببها غالبا الأحداث الكونية الكبرى كالكوارث أو الاستبدال الجذري للتركيبة السكانية.

تحدث التغيرات وتستوعب الدروس وتستخلص النتائج في المجتمعات بعد فوات الاوان لكل جيل ... بعد أن "يحترق" ينتبه الى "الجمرة". الجيل الذي يليه يدرك ظاهريا أن من قبلهم احترقوا بالجمرة، لكنهم ولأنهم لم يعانوا فعل الاحتراق، فقد يعيدوا سيرة من قبلهم، لمجرد تغير في ظاهر الجمرة، أو لتوهم جعل الجمرة بردا وسلاما، أو لذهول عن الجمرة حين تستحكم في النفوس خديعة الطبع الشقي. لذلك يستبد بنا العجب من تشابه الوقائع وردات الفعل رغم تغير الزمان وتحول مظاهر الحياة والعمران، ونقول أن "التاريخ يعيد نفسه" والحقيقة ان "حامل التاريخ" هو من يعيد نفسه أي هو من لا يتغير ... أو لا يكاد يتغير. ومن عجب القرآن أن فعل التغيير، على عكس المعنى المتبادر والاستعمال الدارج، ليس تغييرا من الأسوء إلى الأحسن ... فالآيتان المشهورتان تتحدثان في سياقهما عن تغيير من الأحسن إلى الأسوء.

على عكس ما قد يفهم مما كتبت ... وجهة النظر هذه ليست متشائمة ... إنها تدعو إلى التعامل بهدوء مع ما يحدث ... فكفة التاريخ غالبة دائما ... و"التونسي الإنسان" بطبعه هو ما سيتغلب في النهاية .... طبعا دون أن نغفل المعطيات الجغراتاريخية المتداخلة مع الخارج والتي لها أثرها في الواقع ... فليست تونس أرضا وشعبا بالتي يمكن لها أن تتجاهل "الخارج" ... لا بل إن تاريخها لم يشهد إلا فترات محدودة جدا من " الاستقلال"عن "الخارج".

هل يعني هذا انتفاء المسؤولية عما يحدث وانتفاء التكليف بالسعي إلى الأصلح ؟

بالطبع لا ... لأن المسؤولية مفروضة، والتكليف واجب، وعليه سنحاسب افرادا وجماعات وأجيالا وأمما ... ففي الآخرة كما سيحاسب الإنسان فردا، ستحاسب الأمم ... "وترى كل امة جاثية كل امة تدعى إلى كتابها".

وتاريخنا الذي تحدثنا عنه لم يكن صحائفا سودا كله ... فلم لا يكون زماننا بعض تلك الصحائف؟ ... لم لا نكون صحائف الخير والنماء والتعمير ؟... أو على الاقل لم لا نكون صحائف بداية تبدد السواد وميلاد فجر صادق ليوم مشرق وضاء، يكون صفحة بيضاء من تاريخنا ويكون لنا شرف العمل على إخراجها ؟

تاريخ أول نشر 5\4\2023