1. الجملة وردت منفيّة، وكان يمكن أن ترد سؤالا. النفي مقصود.. ولنقل هي فرضيّة تبحث عن إثبات. الذين ينسبون أنفسهم، في تونس، إلى اليسار يدّعون نسبا ليس لهم. اليسار عقل وموقف، وهؤلاء بلا عقل ولا موقف لهم. فهم ليسوا يسارا إلا على سبيل الادّعاء.
2. شقيقي الأصغر، المعطَّل عن العمل في مقام ابني.. كان قبل الثورة يدرس في كلية الآداب بمنوبة.. وكنت حين أعود إلى بيتنا أجد لديه بعض منشورات ممضاة من "طلبة شيوعيون". لم أخاطبه في الأمر ولكنّني كنت أقول في نفسي أن يكونَ شيوعيًّا يعني أنّ له في الحياة موقفا، وليس إمّعةً.. وكان ذلك يسرّني. أنا أكبر من جميع أشقّائي ولا أذكر أنّني مارست وصايتي على أحد منهم.. بل لم أمارس وصايتي على ولديّ، فأنا أقدّس الحرية.. والحريةُ الاختيارُ. أخي الأصغر الذي تركته لحريته حتّى صار شيوعيا أوهمه اليسار أنّه واحد منهم وأنّه ضمن قائمة المفروزين أمنيا.. وحين فاز هذا السيّد بالانتخابات كان أخي من بين شباب اليسار الذين زاروه في بيته. ولكنّ هؤلاء اليسار حين جمعوا الفيء اعتزلوا شقيقي وتركوه نهبًا لبطالته يقاسيها وقد بلغ الأربعين. وحين أعرض اليسار عن غزّة يعيدون ترتيب أوراقهم في القضيّة جعل أخي غزّة قبلته ولعن اليسار وزيفه.
3. لن أدخل في المتاهات النظريّة لأقول مثلا إنّ أفكار اليسار، بما فيهم ماركس ورفيقه أنجلس، لا تعدو تنويعة من تنويعات الليبراليّة الغربيّة. الماركسيّة كانت نقدا للرأسمالية من داخلها باعتماد قوانين فكرية جدليّة مقلوبة عن جدل هيجل الذي كان يمشي على رأسه فأقامه ماركس. الماركسيّة بنت المادّية الغربيّة، والأوروبيّة تحديدا.
هذا أمر نظري لا مجال للخوض فيه الآن.
4. كلّما تحدّثت عن اليسار ذكرت أسماء لأشخاص/رموز. هؤلاء الأشخاص/الرموز كانت نشأتهم وتكوينهم في زمن الحرب الباردة لمّا كان الاتحاد السوفياتي يقود معسكرا كاملا يدعى المعسكر الشرقيّ في مقابل المعسكر الغربيّ بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
حاولت أن أقرأ ما عثرت عليه من كتب اليسار ودراساتهم في تونس.. قرأت صحائفهم ومجلّاتهم حتّى تلك التي كانت ترفض الفصحى وتورد مقالاتها باللهجة العامية التونسيّة.. واطّلعت على مختلِف أطروحاتهم، من الرأسمالية التابعة إلى أطروحة شبه الإقطاعي شبه المستعمر.. قرأت محمد الكيلاني وحمة الهمّامي، وقرأت للهاشمي الطرودي، رحمه الله، ولمصطفى العلوي وفتحي بالحاج يحي... وقرأت ما كتبه المؤرخ عبد الجليل بوقرّة في اليسار.. وقرأت كثيرا من مقالات الشعلة على الشبكة الافتراضية.
5. أنا لست عدوّا لليسار في أفكاره وفلسفاته. الفكر الماركسيّ مثّل إضافة نوعية إلى الفكر البشريّ.. وكلّ فكر يستحقّ التنويه. ولا أرى في يسار تونس لي خصما لو كان يسارا ولكنّه ليس كذلك. على أنّهم بهذه الضحالة لا يرقون إلى منازل الخصوم. وكم كان العجمي الوريمي، في ثمانينات القرن الماضي، فطِنا لمّا كان يقول لهم "أنتم ماديّون، ولكنّكم لستم جدليّين". كان الرجل ذكيّا وكان وصفه لليسار دقيقا.
أغلب اليسار التونسي نشأ على هامش الحزب الشيوعي التونسيّ، ولكنّهم اتّهموه بالتحريف كما اتهموا الاتحاد السوفياتي بالتحريف.
ليس يسارا وليس تونسيا
6. كونه ليس تونسيا معناه أنّ قبائل اليسار المتناحرة هي انعكاس لحكام دول أجنبية كانوا مجرّد أتباع لها. وكونهم تابعين لحكام دول أجنبية لا يعني أكثر من أنّهم موظَّفون لدى مخابرات تلك الدول.
من اليسار من بقي تابعا للاتحاد السوفياتي حتّى العهد الستاليني. ومنهم من كان تابعا للصين حتى ماو تسي تونغ.. ولا يزال مشدودا إلى الحزب الشيوعيّ الصينيّ لا يملك أن يتّهمه بالتحريف. ومنهم من بقي تابعا لألبانيا في زمن أنور خوجة.
اليسار، إذن، مستورد وليس وطنيًّا. كانت تتلاعب به أنظمة شيوعية متصارعة كلّ نظام منها يدّعي أنّه الممثل الشرعي والوحيد لماركس ولينين.. في سياق الحرب الباردة بين القطبين. ولمّا اندثرت تلك الأنظمة بقي اليسار في تونس تائها لا مرجع له ولا وجهة.. يجترّ في زواياه المعتمة مشافهةً كراريسه الصفراء القديمة لا يزيد عليها حرفا. ولا يقرأ كتابا. يتعالمون على غيرهم كأنّهم، وحدهم، أبناء العلم أو أحفاد المعرفة، وهم براميل جوفاء لا شيء فيها.
7. وكونه ليس يسارا يبدأ من منابت الشخصيات المنتسبة إلى اليسار. وهي، في الغالب، منابت بورجوازية. كانت أغلب العناصر المنتمية إلى اليسار مرفّهة لا تتحدث إلى الشعب إلا باستعمال قفّازات.. وأستطيع أن أتحدّث عما كانت تمارسه قياداتهم ضد قواعدهم من تعالٍ يشهد به غير قليل منهم. حدّثني ناشط من الوطد أنّه حضر اجتماعا كان فيه الرفيق شكري بلعيد.. ولمّا أراد الذهاب إليه لمصافحته منعه الحرّاس فلبس خيبته وعاد. وحدّثتني قيادية جهويّة من حزب العمال الشيوعي التونسي، في عهد بن علي، قبض النظام على زوجها في خليّة حزبية جهوية. وقد فمهت، هي وزوجها، ما كان يمارسه ضدّهم رفاقهم المترفون من ميز ضدّه في السجن. لا يكفي، لدى هؤلاء، أن تكون مناضلا شرسا تدافع عن مبادئك، بل يلزمك أن تكون "قرشيّا ومن بني هاشم" لتكون ذا حظوة لدى النظام ومعارضيه المدلَّلين.
هؤلاء نبتوا في ضيعات بورجوازية، فهم مرفَّهون يضيقون بمحافظة رأوا فيها إكراها خاصّا بالفقراء. ويبحثون عن خلفيّة فكريّة تسمح لهم بتبرير سلوكهم التحرّري. يرون في الأخلاق قيدا صنعته الطبقات المتغلبة لتقييد الطبقات المغلوبة، وكذلك شأن الدين في أفكارهم. إنّ الأفكار، لديهم، ليست أكثر من ذرائع يبرّرون بها نزوعهم التحرّري. والتحرّر، لديهم، يبدأ من رفض المعتقدات الدوغمائية التي تحجب العقل وينتهي إلى "ليبارتيناج" سلوكي قاعدته رفض جميع ألوان الامتثال. ولأنّهم لا يستطيعون مخالفة قانون الدولة مخافة بطشها فقد تظاهروا، نعم تظاهروا، بانتهاك تعاليم الدين تأكيدا لتقدّميتهم.. الدين، في ثقافتهم، أفيون للشعوب، ولأنهم فوق الشعوب فلا ينبغي أن يكون لأفيونها أثرٌ عليهم.
8. لقد وجد اليسار التونسي، عموما، في نظام بن علي مناخا ملائما لترجمة أفكارهم، يستوي في ذلك فصيل المساندة النقدية مع بقية الفصائل.
وقد وجدوا في نظريّة التناقض الجزئي والتناقض الرئيس مستراحا لهم ومستودَعًا.
لقد جعلوا تناقضهم الرئيس مع حركة النهضة الإسلامية، كان هذا قبل ولادة مصطلح الإسلام السياسيّ. وقتها كانوا يطلقون على التيار الإسلاميّ صفات من قبيل التيار الدينيّ أو الظلامية. لم تكن وزارة الشؤون الدينية التابعة للدولة، لديهم، وزارة ظلامية.. الظلامية كانوا يطلقونها، فقط، على حركة النهضة. والظلامية التي كتب حمّة الهمامي فيها كتابه "ضدّ الظلاميّة" ليست أكثر من تسمية مزاجية تقوم على أساس قولة "الدين أفيون الشعوب" التي يختلف الماركسيون أنفسهم في دلالتها. يذهب البعض إلى أنّ حمّة الهمّامي قد وضع ذلك الكتاب لتتّخذه أجهزة بن علي سندا نظريّا لتبرير قمعها للإسلاميين.
9. لمّا حاولتُ أن أفهم معنى تخلّي اليسار عن جميع تناقضاتهم أو إرجائها ليجعلوا تناقضهم الرئيس مع حركة النهضة رأيت ما يلي:
• كان المنطلق في الجامعة. لقد مثّل صعود التيار الإسلامي في الجامعة، مع نهاية سبعينات القرن الماضي، صدمة كبرى لليسار، وقد زادت صدمته بحدث الثورة الإيرانية التي أطلق عليها قادتها اسم الثورة الإسلامية.
كان اليسار مطمئنّا إلى أنّ الدين ظاهرة أفيونية صنعتها الطبقات المهيمنة لتدجين الطبقات المغلوبة.. وقد مثل الحدث الإيراني زلزالا في أفكارهم لم يكونوا مستعدّين له ولم يكونوا يملكون العدّة النظرية لفهمه، فخيّروا رفضه وإنكاره والنأي عنه.
هم يرفضون الدين والمتدينين ويرون في خلط السياسة بالدين خطيئة كبرى وجب التصدّي لها.. ولا يعترفون بثورة يقودها متدينون. الثورة، في فهمهم، لكي تكون ثورة ينبغي أن تشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس. وبلاد لا ملوك فيها ولا قساوسة لا تحتمل، في منطقهم، ثورة. الثورة نشاط يقضي على تحالف بين رجال الدين ورجال الحكم فقط.
• في ذلك السياق بدأ زحف الإسلاميين على الجامعة تيارا محافظا منظما له أطروحات، وله قيادات انخرطت في معارضة السلطة من خارج أدبيات اليسار، وجاءت بخطاب سحب البساط من تحت يسار كان يرى الجامعة مملكته الخاصّة.
لقد اطمأنّوا، في البدء، إلى تفسير يقول إنّ هؤلاء الإسلاميين دوغمائيّون، لذلك فهم لا ينتشرون إلا داخل الكليات العلمية. العلوم تسليميّة ولا تقبل نقاشا، وهي، بذلك، تتوافق مع أطروحاتهم الدينية المنغلقة.
ولمّا صار للإسلاميين حضور في كليات الحقوق والآداب تركوا الفهم واستسلموا للغضب، وقد كانت ذروة غضب اليسار من الإسلاميين في مجزرة منوبة في 1982.
لقد اعتبر طلبة اليسار "الاتجاه الإسلامي" رجعيا بالمعنى الماركسي للكلمة، أي أنّه يعرقل المسار التّصاعدي للتاريخ، وكانوا يرون في القضاء عليه إنجازا للحركة الطلابية استنادا الى قراءاتهم الماركسية.
وكانت المجزرة الشهيرة ترجمة للعنف الثوري الذي كان ضمن الأدبيات الماركسية التي لديهم.
يقول الماركسيون بالحتمية التاريخية. والتاريخ هو التقدّم.. والتقدّم، في فهمهم، لا يقبل بتيار رجعيّ لا ينخرط فيه. غير أنّ ضعفا في عقيدتهم الحتمية جعلهم يستوردون آلية العنف الثوري ليستعملوها في إزالة العقبات من نهر التاريخ الذي يقفون عليه مثل الحرّاس يراقبون تدفّقه.
كانت حركة النهضة هي العقبة. كانت، في الحقيقة، عقبة في طريق اليسار لأنّها جاءت إلى معارضة السلطة من خارج أفقهم ولم تستعمل أدواتهم. كان لا بدّ لها، لأنها تؤمن بالدين، أن تكون رجعية ظلامية جاءت لتقطع النور عن أبناء التنوير.
10. ترك اليسار كلّ تناقضاتهم. تركوا الشعب وآلامه وانخرطوا في دولة بن علي لغاية وحيدة هي قيادة القضاء على حركة النهضة واجتثاثها من أصولها وتجفيف جميع منابتها. ولأنّ معركتهم ضدها لم تكن فكرية ولا سياسية فقد تعدوّها إلى ملاحقة كلّ أشكال التدين، ليكون كلّ ذاهب إلى صلاة الفجر في المسجد "خوانجي" ولا يطمع متَّهم بالانتماء في دفع تهمته عنه. كثيرون اعتقلهم نظام بن علي بسبب الصلاة ولا علاقة لهم بحركة النهضة. ولولا سطوة اليسار ما اعتُقلوا.
11. كان يمكن للثورة أن تجدّد أفكار اليسار وتدفعه إلى الفهم وإعمال العقل. ولكنّه يسار كسول متخم من فرط ما طعم من موائد بن علي. لم يعد منه من يقرأ أو يفهم.
استدعوا كراريسهم الصفراء القديمة وأخرجوا عُلبهم العتيقة ووضعوا في كلّ علبة أهلها. لا يزال الدين أفيونا ولا يزال الله خرافة ولا يزال الشعب ساذجا تنطلي عليه حيلُ الخطاب الديني دون جميع الحيل. ولا تزال حركة النهضة عدوّا وجب استئناف الحرب عليه لاستئصاله مرّة أخرى.
ولأنّ اليسار قد تسلّل إلى مؤسسات الدولة في عهد بن علي واستأثر بالاتحاد العام التونسيّ للشغل، فإنه لم يجد له من هدف أسمى من تجديد حربه على حركة النهضة، كأنّ للدولة الوطنية هدفا أوحد هو إعلان الحرب على طرف سياسيّ نجح في تنظيم نفسه وعرض أطروحاته على الشعب الذي ضمن له رصيدا ينقص ولا يزول.
اليسار بدل أن يترجم التقدّم ويساعد البلاد عليه ظلّ قابعا في عدواته الغريزيّة يحارب خصما قهره استمرارُه على قيد الحياة رغم التنكيل يعدّل كلّ حركته في الحياة عليه.
12. قد يلاحظ قارئ أنّ المقال مال إلى حركة النهضة يتحدّث عنها. ذلك لأنّ النهضة كانت مركز الدائرة في عشرية الانتقال الديمقراطيّ، ولم يكن لليسار من شغل غير قطع الطريق عليها وإعادة قياداتها إلى السجون والمنافي، وكذلك فعلوا.
المقال يأتي في سياق الحديث عن اليسار بمناسبة الانتخابات في فرنسا وفوز الجبهة الشعبية بها. اليسار في فرنسا يسار فرنسيّ أصيل نابت في تربته لا أظنّه منشغلا باجتثاث أقصى اليمين الفرنسيّ على تناقض ما بين الجبهتين. بينما اليسار في تونس هو يسار دخيل لا علاقة له بالشعب. وحتّى البرامج التي يزعمها حمّة الهمّامي مثلا ترد تنظيرا في خطاب شعبويّ لا يقنع أحدا، حتّى لقد اتّخذ التونسيون من بعض كلامه موضوعا للتندّر.. من ذلك حديثه الذي لم يكن ينتهي عن "خالتي مباركة وقفّتها".
13. كان يمكن لليسار أن يمثّل إضافة نوعيّة للبلد، ينتصر للفقراء ويعمل على تحقيق العدالة ويدافع عن الحريات ويرفع المظالم عن المظلومين، غير أنّه استغرقته عنصرية فاشية جعلته يرى نفسه في مقام طهوريّ أرفع من غيره ويرى في كلّ مخالف له عدوّا وجب تطهير البلاد منه.
لمّا جعل اليسار من حركة النهضة عدوّه اللدود وترك ما دونها أضاع نفسه وأضاع البلاد.
هذا ليس يسارا.. هذا نوع تونسيّ نادر مصنوع على عين مستعمر قديم زرعه في الجسم الوطني مثل فيروس مزمن قاهر للمناعة.