search

ما العمل ... الآن؟

*سؤال يردده بعض الأصدقاء بعد "صدمة/خيبة الانتخابات" الأخيرة. وهو سؤال يخصّ أقلية حَركيّة ترفض أن تستسلم للإحباط وتصرّ على استئناف الفعل السياسي في سياق تونسي يبدو أنه يدفن منذ سنوات قليلة جثة نمط منتهٍ من التسيّس المعارض التقليدي، وتبتعد أغلبيته عن شأن السياسة والانتخابات فيما تختار الأغلبية الناخبة التفويض المطلق/المبايعة لحاكم فرد يدبّر مستقبلها عوضا عنها.

*وهو أيضا سؤال احتجاجي موجه ضد المحبَطين الذين يرددون الآن بمرارة المهزوم أنهم "يئسوا من هذا الشعب.. وتعبوا من التفكير في مصلحته مكانه.. وأن الوقت حان لترك أهل البلاء في البلاء والعودة إلى الاهتمام بالعائلة والمشاريع والصحة والترفيه، وغيرها من الشؤون الخاصة بعيدا عن تكسير الرأس بالتفكير في مستقبل شعب سعيد بواقعه ويكره التغيير".

*وهو قبل ذلك سؤال تاريخي كبير ابتدعه شخص روسي اسمه لينين.. زعيم ثورة اشتراكية غيّرت تاريخ روسيا وصنعت دولة عظمى (لا يعنينا مآلها في السياق الحالي) ومثّلت طويلا نموذجا فكريا وسياسيا وإنسانيا للجزء المضطهد والمستَغَلّ من سكان الأرض.. والشباب منهم بالخصوص.

ابتدعه وهو يبحث للطبقة العاملة عن "أداة" سياسية تنظّم بها ثورتها ضد البورجوازية. فتوصّل إلى اقتراح "حزب الطبقة العاملة" ليكون الطليعة التي تفكّر وتخطّط وتقود العمال في مواجهة البورجوازية المهيمنة على الاقتصاد والحكم. لينين إذن أجاب على سؤاله ونجح في تحويل إجابته التي سجلها في كتب إلى فعل واقعي في التاريخ.

*لذلك، طرح هذا السؤال في سياقنا التونسي الآن يقتضي منطلقات متفقا عليها. "ما العمل" سؤال يتضمن إقرارا بأزمة تمّ تشخيصها. لكن طارحي هذا السؤال الآن في تونس مختلفون جزئيا أو جذريا في تشخيص الأزمة.. أي ما العمل في ماذا؟

وسيكون من الشجاعة الأخلاقية إعادة هذا الاختلاف إلى جذوره الأولى التي ما زالت تتفاعل بقوة في أعماق بنى التفكير والشعور لكل تيارات السياسة في تونس.

_ فيهم من يرى أن أزمة تونس سياسية حضارية أخلاقية بالأساس. انطلقت مع تخلف المسلمين عن ركب التاريخ وتقدم الغرب الذي غزا أرض الإسلام واستعمرها وأسقط رمز وحدتها السياسية أي الخلافة واقتسم أرضها ونصّب عملاءه ليحكموا مكانه بعد خروج جيوشه ثم/و اخترق وعي شعوبها ومسخ هويتها وشوّه أخلاقها بإحلال أفكاره ولغاته وأنماط سلوكه عوضا عن عقيدة الإسلام وأخلاقه واللغة العربية.

والحل عند هؤلاء هو استئناف تاريخ المسلمين من حيث أوقفه الاستعمار، ويعتبرون كل تيار فكري يدعو إلى التحديث تيارا تغريبيا معاديا لهوية الشعب التونسي والأمة الإسلامية.

_وفيهم من يرى أن أزمة تونس في تمسّك مجتمعها ببنى تفكيره الديني الغيبي التقليدي الجامد المعادي للعلم ورفض الانخراط في العقلانية العلمية المعاصرة التي صنعت تقدم الغرب. هؤلاء يرون كل من يدعو إلى التمسك بالهوية الدينية للمجتمع عدوا للحداثة والتقدم.

_وفيهم من يرى أن مشكلة تونس هي التفاوت الطبقي الحاد بين أقلية بورجوازية تحتكر القطاعات الاقتصادية الحيوية بالوكالة عن الاحتكارات الرأسمالية العالمية التي تتحكم في خيارات الدولة الاقتصادية، مقابل طبقات/فئات اجتماعية صناعية وفلاحية وخدمية ومهمشة تستبيحها الرأسمالية وتفرض عليها هشاشة اجتماعية دائمة.

أصحاب هذه الرؤية الاجتماعية انحازوا موضوعيا إلى الفئة الثانية وأجّلوا (إلى الأبد) معركتهم ضد الرأسمالية وانخرطوا في معركة التحديث البرجوازي ضد القوى المحافظة بهدف تحرير البروليتاريا والفلاحين والمهمشين والفقراء من الفكر الديني وتسليحهم بالفكر العلمي الذي سيمكنهم من وعي وضعهم الطبقي كشرط ضروري للثورة ضد البرجوازية، حليفته الآن ضد الرجعية الدينية...

كان لا بد من العودة إلى جذور الانقسام السياسي التونسي لنفهم طبيعة الأزمة السياسية المفتوحة التي لازمت أداء "دولة الاستقلال" بنفس القدر الذي لازمت معارضتها التي تُجمع على أنها دولة "غير مستقلة"، فهي من مخلفات التقسيم الاستعماري لدولة الإسلام عند الإسلاميين، وهي من مخلفات نفس هذا التقسيم الاستعماري للوطن العربي الذي من حقه بناء دولته القومية الواحدة عند القوميين، وهي دولة رأسمالية تابعة للمركز الرأسمالي الاستعماري العالمي عند الماركسيين.

على قاعدة هذه القراءات الايديولوجية المتناقضة للتاريخ، والتي لا تخلو كلها من وجاهة جزئية، تواجهت مدارس الفكر والسياسة في تونس بشكل عنيف وتبادلت وما تزال حروب وجود. وظلت تخوض معاركها ضد بعضها بنفس الأدوات رغم التحولات التاريخية

المتسارعة التي شهدها واقع مجتمعها الذي ظل منفصلا تقريبا بشكل كلي عن هذه المعارك.

فقد نجحت الدولة/الجهاز/الإدارة في عزل هذه النخب الايديولوجية داخل الجامعات وحلقات الفكر والمعارضة النخبوية والنقابات. ونجحت بالمقابل بعض المجموعات الايديولوجية اليسارية أساسا في التموقع داخل أجهزة الدولة لتقوم بتوظيفها في مناسبات كثيرة في ضرب ومحاولة اجتثاث خصمها الإسلامي الذي يحظى بانتشار جماهيري أوسع منها بحكم انطلاقه من عقيدة الجمهور.

دفع المجتمع ضريبة كبيرة من جراء هذه المواجهات الايديولوجية الدموية (والضريبة الأكبر التي ستبقى جرحا غائرا ونازفا في جسد المجتمع دفعها إسلاميّون في التسعينات.. قُتل منهم عشرات تحت التعذيب ويُتّمت مئات الأطفال وشُرّدت آلاف العائلات وحُرم شباب من إتمام تعليمهم وانتهكت أعراض... الخ)

إلى أن جاءت الثورة، فانفتح أمام المعارضات (التي كانت سرية في عمومها وملاحقة ويائسة من التغيير) باب عجائبي خرافي أوصلها إلى الحكم،

أو ما ظنته حكما.

فكان عليها أن تدير "دولة" تعتبرها في كل أدبياتها غير شرعية وغير مستقلة بعقل تائه ممزّق بين استحقاقات واقع بائس وبقايا طوبى مستحيلة.

ولأنها (المعارضات القديمة) دخلت الدولة بصفر معرفة بآليات اشتغالها وبصفر فكرة عن دهاليز أجهزتها وبصفر غطاء سياسي دولي فقد كانت لقمة سائغة للوبيات الداخل ومراكز الهيمنة والتوجيه الخارجي. فاستدرجتها هذه اللوبيات والمراكز إلى معارك الوهم. وأول تلك المعارك المدمّرة معركة حسم هوية الدولة والمجتمع والتنصيص من عدمه على مرجعية الإسلام والشريعة في دستور الثورة..، معركة أطلقت كل مخزونات التعصّب والعنف الكامنة في طبقات اللاوعي الجمعي.

هذه المعركة الكبرى تزامنت مع انفلات مطلبية اجتماعية مجنونة، كان يمكن اعتبارها منطقية جدا بعد ثورة، فالناس تعتقد أن الثورات عليها، حال قيامها، أن تشغّل البطال وتُغني الفقير وتحقق الرفاه للجميع، لولا أنها كانت مغذّاة وموجّهة وموظفة من قوى ايديولوجية متمترسة في النقابات ومن مراكز القوة التقليدية الرافضة لقوى الحكم الجديد، مراكز جندت بكل عنف أسطولا ضخما من القنوات التلفزية والإذاعات المملوكة كلها لكارتيلات البنوك والمال والسفارات لتشويه الثورة والديمقراطية لا فقط نخبة الحكم الجديد.

إلى جانب كل هذا، تكفّلت المخابرات الأجنبية بفتح جبهة الدم، أي بملفات الاغتيال والعمليات الإرهابية المجرمة.

هكذا وجدت القوى الصاعدة نفسها في وضع غير قابل للحكم. وحين أدركت بنفسها وبالتجربة هذه الحقيقة، كانت مجبرة على الفرار من الحكم.. تاركة خلفها جاذبيتها الأخلاقية والنضالية القديمة.. أي رأسمالها كله تقريبا.

من هنا نفهم نهاية زمن كل التيارات التي صنعت السياسة (بما فيها العمل الحقوقي والنقابي) منذ أواخر عهد بورقيبة، مرورا بالعشرية الثانية لحكم بن علي، وصولا إلى "وهم الحكم" و"وهم المعارضة" بعد الثورة، وانتهاءً بالانكشاف الأخير والنهائي مع محاولة إنهاء الانقلاب وإنقاذ الديمقراطية في الانتخابات الأخيرة.

هكذا نخلص إلى الإجابة عن سؤال ما العمل الآن؟

لنعترف أولا أن الانقلاب تسرّب بين شقوق الأبنية الحزبية المتصدّعة المتداعية. متصدعة بحكم تآكل شرعيات تأسيسها كلها، فالاجتماع السياسي التونسي ابتعد تماما عن يوتوبيات دولة الإسلام ودولة الوحدة والدولة الشيوعية، ولم يبق يشده إلى التاريخ سوى عاملان: "بيروقراطية الإدارة" التي ظلّت تضبط الحد الأدنى من السلام المجتمعي والتعايش الاضطراري بين أفراد مجتمع شبه أمي وعنيف، وبين معسكرات الايديولوجيا المتناقضة وجوديا. والعلاقات القرابية الأولية.

ورغم أن الثورة أتاحت لتيارات الفكر والسياسة المتناقضة فرصة إرساء الديمقراطية باعتبارها أرقى أشكال التدبير العقلاني الحديث للاختلاف في مقاربة الشأن العمومي، إلا أنها كلها (ولا يهم الاختلاف في الدرجة هنا لأن النتيجة واحدة) دخلت الديمقراطية بعقلية الحسم النهائي لتناقضاتها القديمة البائسة، فكان الانقلاب استثمارا ناجحا في فوضى معاركها اللاتاريخية (نقول هذا لا لتبريره بل لتحديد المسؤوليات. ونحن نعلم أن الانقلاب على الثورة انطلق منذ اليوم الأول لهروب بن علي).

إذن.. منذ انقلاب 25 انتهت الأحزاب في الواقع. لم يعمد الانقلاب إلى سحب تأشيراتها القانونية ولكنه استعاض عن ذلك بغلق المجال العام بسلسلة من المراسيم والإجراءات المجرّمة للفعل السياسي. والنتيجة أنه حظر نشاط الأحزاب فعليا، مع إضافات خاصة بالنهضة التي أغلق مقراتها وقصقصة أجنحتها باعتقالات مركّزة استهدفت العناصر المفاتيح فيها. أما الأحزاب القليلة التي غضّ عنها الطرف فقد كانت إما مساندة له أو هامشية لا وزن لها في الواقع.

ولم يكن غريبا أن تستسلم الأحزاب إلى حكم الإعدام الذي أصدره ضدها الانقلاب، فقد كانت جاهزة تماما لكتابة نهايتها.

يكفي أن ننظر إلى الفوضى والارتخاء والبهتة التي حكمت تعاملها مع الانتخابات الأخيرة لنفهم أنها صارت من الماضي.

لذلك...

أنا أراهن الآن على إعادة انتشار استراتيجي هادئ لمن سيظلّ يرى السياسة التزاما أخلاقيا يمارس بمقتضاه إنسانيته الفردية والجماعية. إعادة انتشار بهدف إعادة تأهيل فكري ضروري، لأن كل من مارس السياسة خلال العقود الماضية سيخرج منها معطوبا في جسده أولا، وفي جهاز تفكيره، وفي توازنه النفسي بما يجعله عبئا على الزمن السياسي الحالي والقادم.

لنتفق أن إعادة تكوين أحزاب على النمط القديم أو الاحتفاظ بما بقي منها صار عبثا. إذ تلك أحزاب صنعت لُحمتها بفضل الإيمان العقدي التبشيري بيويتوبيا كبيرة وبفضل الملاحقة الأمنية السجون، والسرية التي تجعل من المناضل الذي يمتلك المعلومة السياسية وينجح في التخفي عن عيون الدولة أو عدم إفشائها تحت التعذيب بطلا خارقا، في حين أننا الآن في زمن الانكشاف المعلوماتي التقني الكامل أمام أجهزة السلطة وأجهزة العالم.

التسيس المطلوب الآن يجب أن يكون بوعي "كلّي" وبممارسة جزئية جدا. أي عليه أن يكون تسيسا "أكاديميا" متسلحا بالمعرفة المتخصصة ليعي أنه يواجه الدولة/العالم. فالدولة المحلية ليست إلا جزءا من شبكة هيمنة رأسمالية معولمة تستهدف الفرد والجماعات أينما كانا في كل حقوقهما الأساسية الأولية. ولكن مواجهتها تقتضي نضالا محليا جدا بالانتظام في نقابات قطاعية مناضلة تدافع عن المكتسبات الأساسية للعمال المهددة الآن بالتشغيل الهش المهين وبتفاوت طبقي مريع يُفرغ المجتمعات من إنسانيتها وبنسق جنوني لاستغلال لثروات الأرض يهدد بتدمير الحياة.

العمل النقابي الذي تشوه جدا في تونس هو الحلقة الأولى عندي لإعادة فكرة التضامن المجتمعي والنضال الحقوقي الإنساني.

أما العمل السياسي بما هو انخراط دائم في تشكيلات سياسية مطالبة بدوام كامل في السياسة فأظنه قد فقد معناه. فقط المشاركة في الانتخابات (البرلمانية والبلدية أساسا)، ورغم أنها الآن صارت شكلية ومفرغة من المعنى، فيمكن خوضها مناسباتيا ضمن مبادرات مواطنية محلية متعددة الأشكال (رابطات قروية أو ائتلافات مهنية) تمهيدا لاستعادتها.

هل ستسمح السلطة التي تمتلك الآن كل مقومات الاستبداد بهذا التسيّس العلني الجزئي الذكي..؟

سيكون ذلك بثمنه طبعا، شأن الحرية الحمراء دائما.

ختاما.. يأمل البعض في أن انفجارا اجتماعيا عنيفا وفوضويا قادما حتما، احتجاجا على فشل السلطة في تلبية حاجات الناس المعيشية، سيكون إيذانا بعودة المنتظم السياسي القديم المنكفئ الآن تحت ضربات القمع إلى الحكم.

للأسباب التي ذكرت أعلاه.. أقول أن الأمر مستحيل ولاتاريخي.

تاريخ أول نشر 2024/10/8