search

متى تنتهي المظلمة ويستعيد الغنوشي حريته ومكانته؟

التاريخ ليس فقط رواية وإخبارا عن الأحداث فقط با هو حديث عن الأشخاص الذين صنعوا الأحداث وصنعتهم.

للمكان عبقرية تصنع الرجال العظام ولأنه كذلك يستدعي الأحداث الكبرى والفارقة أي ملاحم تبقى ذكرى ومرجعا على مر الأزمنة.

أما نبوغ الأشخاص وعبقريتهم فليست رهينة عامل وحيد وليست مرتبطة بالسن والعصر، لكن وجود شخصية تجسدت فيها معاني البطولة والشرف والمجد والتضحية يمكن أن تدخل عاملا من عوامل صناعة القادة والابطال والمبدعين.

لقد كان محمد الدغباجي مجاهدا كبيرا حارب الإستعمار وقاد ضده أشرس المعارك ودفع حياته ثمنا للحرية والسيادة الوطنية.

وكان الطاهر الحداد الزيتوني التقدمي رائدا من رواد دعوة تحرير المرأة المسلمة، ومنظرا لتوحيد جهود العمال في منظمات للعمل النقابي لتحقيق العدالة الإحتماعية والمساواة، وقد سبقه إلى ذلك محمد على الحامي الذي دافع عن نقابات إسلامية ونظام إجتماعي تبرز فيه القيمة التضامنية للمجتمع المسلم.

وقد توفي الرجلان في سن الشباب وكانا سابقين عصرهما.

كما كان لجلولي فارس دور حاسم من خلال ترؤسه للمجلس التأسيسي، في نقل منظومة حكم البايات الوراثية إلى نظام جمهوري لدولة مستقلة يحكمها دستور يضمن التفريق بين السلط، وانتخاب رئيس الجمهورية إنتخابا مباشرا، وتحقيق مطلب الحركة الوطنية في إقامة برلمان تونسي.

في نفس تلك التربة في مدينة الحامة بالجنوب التونسي برز مناضلان آخران تزعما لعقود حركة اليسار الجديد والإتجاه الإسلامي المعاصر هما نور الدين بن خذر وراشد الخريجي الغنوشي.

كل المذكورين من القادة الكبار والكتاب الرواد غادرونا إلى عالم البقاء وبقيت ذكراهم، إلا الأستاذ راشد الغنوشي الذي عاصر بعضهم، فهو اليوم بين ظهرانينا يواصل حمل مشعل الفكر والنضال والمقاومة رغم تقدمه في السن وحكم الأقدار التي رمت به في السجن. والسجن موت إجتماعي ومقبرة الأحياء، وقد ابتدعته الإنسانية في زمن تنظمها كدولة، توزع الأدوار وتتحكم في الفضاء العمومي وتصنف رعاياها، فلا يكون الحاكم حاكما إذا لم يبعد بعض معارضيه أو يسجنهم وربما ينكل بهم. فقد كانت المعارضة عنوانا للتمرد والخروج والإنشقاق والعصيان وعدم الإعتراف بشرعية صاحب السلطة.

في مطلع حياته السياسية كان الغنوشي ورفاقه يعتبرون مشكل الأمة والبلاد مشكلا قيميا وأخلاقيا، ويرون الإصلاح يكون بتقويم سلوك الفرد، ولكنهم كالدغباجي يعتقدون أن الخروج من الإنحطاط يكون بطرد المستعمر وأذنابه وبالإتحاد تحت الراية الدينية.

ثم ما لبث أن أدرك والجيل المؤسس مثلما أدرك محمد علي الحامي من قبلهم أن لا حرية ولا تنمية دون تحقيق العدالة الإجتماعية والمشاركة في خلق الثروة وحسن توزيعها، وقد كانت أحداث الخميس الأسود منبها لأهمية المسألة الإجتماعية في التغيير.

وكما فعل الطاهر الحداد عندما ألف كتابه "إمرأتنا في الشريعة والمجتمع "ألف الغنوشي وهو في سجن نظام بورقيبة كتابه "المرأة بين المجتمع والقرآن"، ودعا فيه إلى تحريرها من التقليد والتغريب، ورفض منزلتها كسلعة في منظومة رأسمالية أو كتابعة في منظور فقهي يثقلها بالواجبات حد الإستغلال ويحرمها من الحقوق حد الإستعباد. وقد كان الكتاب دعوة ضمنية للنساء لرفض منزلتهن في الثقافتين الغربية والتقليدية والإنخراط في العمل السياسي والنقابي والإجتماعي.

وقد أدرك الغنوشي في مرحلة متقدمة مثل الجلولي فارس الوطني الدستوري ونورالدين بن خذر اليساري الشيوعي أن مشاريع التغيير والإصلاح تصطدم بالسلطة. وإذا كان الأول يراها قاطرة للمجتمع بما هي وريثة الحركة الوطنية ومنصة النخب المتعلمة والمثقفة نحو ممارسة القيادة والتسيير، والثاني يعتبرها عائقا أمام إستقلاليته وتنظمه لطابعها السلطوي، فقد اتفق الغنوشي مع بن خذر كل من منطلقاته الخاصة، أن الزعيم الذي تعايش معه الجلولي فارس أصبح عائقا أمام القوى الحية، وأنه إذا لم يأذن بفتح المجال السياسي ويسمح بقيام تعددية سياسية، فإنه لن يلقى إلا المعارضة والمقاومة. وقد أيدت أزمات النظام المتكررة توقعاتهما بأن الإستبداد والدكتاتورية سيفضيان إلى وهن الدولة وتنامي النقمة.

يعتبر راشد الغنوشي وريثا شرعيا للدغباجي ومحمد علي الحامي والطاهر الحداد وجلولي فارس ونور الدين بن خذر.

لذلك سعى إلى إنتاج فكر يقطع مع التقليد وبنى تنظيما ينهي حالة التشرذم وبنى المناضل الملتزم بديلا عن الشخص المائع المنبت، وسعى إلى أن تأخذ المرأة مكانها في العمل الدعوي والثقافي والسياسي جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل، وساندت حركته الإتحاد العام التونسي للشغل وحرصت على إقامة علاقة تعاون مع قيادته خاصة الزعيم الحبيب عاشور وخطه النقابي الوطني المستقل.

عندما فتح باب التعددية زمن حكم الرئيس بورقيبة قاد الغنوشي وزميله عبد الفاتاح مورو ورفاقهما مسار الإعلان عن الحركة والمطالبة بالعمل في إطار الشرعية القانونية.

وعندما قام زين العابدين بن علي بحركته الإنقاذية التصحيحية، وبدت في لحظتها بارقة أمل في المصالحة الوطنية، قاد الغنوشي ومساعديه حركته إلى الميثاق الوطني وإلى صندوق الإقتراع قبل أن يتنكر المتصلبون لعهود التغيير مع المعارضة ويزجوا بالبلاد في سنوات التصحر السياسي.

وإثر ثورة شعبنا المجيدة قبل الغنوشي وحركته الجريحة الإندراج في منظومة الإنتقال الديمقراطي ومساره المعقد.

واليوم وبعد سنوات من الصمود في وجه موجات الثورة المضادة، إنتهى المطاف بالغنوشي إلى السجن الذي عرف زنزاناته زمن الحكم البورقيبي ولاقى أبناؤه وأنصاره عذاباته وويلاته زمن حكم بن علي.

اليوم "يحتفل" زعيم النهضة بذكرى ميلاده الثالث والثمانين في السجن للعام الثاني، وهو يحمل صفة رئيس للبرلمان، وتصور وضعيته وضعية الديمقراطية في بلادنا التي تستعد لاستحقاق وطني ودستوري يفترض أن تذهب إليه على قاعدة الإصلاح والمصالحة والمنافسة من أجل غد أفضل، تجسيدا لحلم أجيال من التونسيات والتونسيين وأجيال من القادة والمناضلين من أبناء الحامة التي عرفت مولد قادة أبطال أتينا على ذكر ثلة منهم في هذا المقال.

مئات الشخصيات العالمية تطالب اليوم بالإفراج عن راشد الخريجي الغنوشي، رئيس البرلمان والمفكر والسياسي البارز رئيس حركتنا المنتخب، لا لأجل سنه (83)سنة، ولا لأنه شغل منصبا مرموقا في الدولة، وإنما لأن مكانته وكفة مواقفه السياسية والإنسانية ومسيرته الكفاحية الطويلة من أجل الحرية ترجح رجحانا حاسما أن مكانه ليس السجن، جتى وإن تقبل مصيره بنفس مطمئنة راضية، بل إن ذلك يضاعف إلحاحية طرح السؤال على ضمائرنا :متى يعود الغنوشي إلى بيته ؟

تاريخ أول نشر 2024/6/22