ما صدر عن السيد كريم كريفة والذي سبقه خطوات حذرة تمثلت في ما صرح به السيد عدنان بالحاج عمر والسيد أمين محفوظ والسيد نافع العريبي وأيضا "المبادرة" التي تقدم بها الحزب مع آخرين ... إن ما صدر بذلك الوضوح، يعد خطوة متقدمة تحتاج من الاطراف الأخرى استقبالها بالتشجيع والتقدير ...
في تقديري، تصريح كريفة كان دقيقا وواضحا ولا يحمل مخاتلة ولا لبسا ... دعا إلى التخلي عن لغة وعقلية الإقصاء وما سماه صراع الإيديولوجيات ... وان يتوحد الجميع لما فيه مصلحة تونس ... وأن الظرف يقتضي الوحدة، لأن الخيار هو ببن ان ننجو جميعا أو نغرق جميعا ... كان واضحا في ان التوحد الآن من أجل إسقاط الانقلاب، لا يعني أننا متفقون في رؤيتنا الإصلاحية أو رؤيتنا في الحكم ... أكد ان التنافس سيتواصل، ولكنه تنافس من أجل إقناع الناخب التونسي بالبرامج الانتخابية التي على أساسها سيحكم الفائز ... وأكد بوضوح أن نتائج الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة يجب ان تقبل وأن يمتثل لنتائجها ... وان يمارس الفائز حقه في الحكم، وأن يمارس الخاسر حقه في المعارضة، وإذا اقتضت النتائج ضرورة البحث عن تحالف للحكم، فلا مانع لديهم من المشاركة إذا أدت المفاوضات إلى الاتفاق على برنامج للحكم يقدم مصلحة تونس على كل ما عداها ... في السؤال الأخير الذي وجه له: ماذا تقول لأنصار حركة النهضة وقيادتها، كان جوابه واضحا، يؤكد ما سبق من كلام واضح ولكنه كان عاما.
كل العارفين بالحزب، وبموقع عبير موسي فيه، وعلاقة كريفة القبادية والمباشرة بها، يعرف ان ما صرح به كريفة، تقف وراءه عبير، مما يدل على أن المراجعات هي موقف الحزب كله وعلى رأسه قيادته ورئيسته.
هنا سيقول لي الكثير: وماذا سنفعل بكل ذلك الماضي الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه والذي لعب فيه الحزب ورئيسته دورا محوريا؟
أقول نتركه للتاريخ وللعبرة، ولاستخلاص الدروس، وناقوس إنذار يذكرنا كلما أوشكت أن تزل بنا الأقدام.
وليس ما ندعو إليه بدعا في تاريخ الانسانية أو بدعا في تاريخنا ... فكم من صراعات دامية انتهت بوفاقات دائمة، وكم من حروب انتهت بسلام الشجعان، وكم من عداوت كانت أساسا لمصالحات تعتبر تلك العداوات قاعدتها الصلبة.
لقد تصارعت الأحزاب وكل يدعي انه صاحب حق .... وتصارعوا وكل يرى التمكين لخصمه يعني ضياع ذلك الحق ... وتصارعوا لأن كل منهم يرى ان ما يعانونه من خصم مشترك أهون من التمكين للآخر ... وتخاصموا وهم في غفلة من تعقيد الصراعات التي قد تبدأ هينة ثم تتحول دموية ... وقديما قال الشاعر : قد يبعث الأمر الحقير عظيمه ### حتى تظل له الدماء تصبب
وتصارعوا وهم غافلون عما تجر إليه الشتائم والمنابزات وسلاطة اللسان من تصعيد في الصراعات ... و"الحرب أولها الكلام" كما قال عمرو ابن سيار ....
قطعا إن كلامي لن يعحب من يتصور نفسه على حق ويرى غيره على ضلال .... ويمكن ان يحشد لي عشرات الحجج "الدامغة" على انه على حق وان خصمه ظالم وخائن للوطن وعدو لتونس والتونسيين ... وأعرف ان المهم ليس أحقية الدعوى، ولكن ما ترسب في قناعات أصحابها وأنصار الحزب من صحتها بقطع النظر عن حقيقتها ... وهذا ملمح مهم أرجو أن بنتبه إليه ...
كل إنسان يطمح ويرغب في أن تنتصر الحقيقة على البهتان، وأن ينتصر للمظلوم ويقتص من الظالم ... ولكن في واقع البشرية، كل ذلك يمكن ان يتحقق بأقدار، ولكنه محال أن يتحقق كما تبدو المعادلات الرياضية ... ذلك إن الحق في ذاته عزبز المنال، كما العدل في ذاته عزبز المنال ... والحق والعدل صفتان من صفات الله، لا يمكن ان يدركا من طرف الانسان، وإنما هو يكدح إليهما كدحا حتى يلقى الله ... ويكفيه شرفا ان يكدح ويسعى. وعلى الله الكمال ...
لكن العيش المشترك الذي هو قدر التونسيين جميعا، لن يتم إلا بالصبر على بعضهم البعض، واحترامهم لبعضهم البعض، والقبول ببعضهم البعض بما هم عليه من الاختلاف ... وليس عليهم إلا ان يجعلوا من الاختلاف عامل قوة ...
وما يجمع التونسيين من وحدة الأصول الثقافية، أكبر مما يفرقهم، ولن تقدر الإيديولوجيات تجاوز ما بنته الثقافة من أواصر ... تلك الأواصر التي استطاعت ان تكيف الممارسة الدينية على تأويل مخصوص، تميز به التدبن التونسي رغم التنوع داخله ....
في بدايات توافق الباجي والغنوشي، تحدث الكثيرون عن "الجد المشترك" بين الاسلاميين والدساترة. وهو منظور طريف وله سنده التاريخي والواقعي. وأنا أستعيد الفكرة، لانه شئنا أم أبينا، ودون انتقاص من التيارت الاخرى، هما عمود القوى الفاعلة في المجتمع التونسي .. وأنا هنا أتحدث عن التيار لا عن الاشخاص، ولو كانوا زعماء في الفريقبن ... والتيار بالمنظور السوسيولوجي اقوى تأثيرا من زعمائه، الذين رغم ما يبدو من ريادتهما إلا أنهما يلعبان دورا وظيفيا فيه.
يمكن لنا أن نقول أننا الآن بصدد الدخول في منعرج حقيقي لم نكن لنصل إليه لولا تلك العداوت والصراعات! وذلك من مكر التاريخ ...
تاريخ أول نشر 2025/11/30
