search

مشروع الغنوشي في مفترق لحظة التأسيس والقطيعة المستحيلة

لا أعتبر أن الأستاذ راشد الغنوشي له مشكلة شخصية مع أحد. كانت له مشكلة مع بورقيبة إنتهت يوم 07 نوفمبر 1987.

وقد صرح بعدها في حوار شهير لجريدة الصباح مع رئيس تحريرها عبد اللطيف الفراتي إعتبر فيه مجلة الأحوال الشخصية مكسبا للمرأة وللعائلة التونسية.

لم يكن الأستاذ راشد يعتبر زين العابدين بن علي عدوا إيديولوجيا، وعند الصدام مع نظامه كانت المعركة ضد الإستبداد والإقصاء، وقد وضع بن على في الواجهة بل كرأس حربة فئة لائكية متطرفة، ومكن لها في إطار صفقة حتى تسكت عن الإنتهاكات وتظفر بالإمتيازات بدعوى الإشتراك في التصور للنمط المجتمعي، وهي كذبة متبادلة وتقاسم أدوار وزواج متعة بين الإستبداد والطابور الخامس. وقد بدأ الشقاق قبل الطلاق بعد عشرية تغلغل فيها الطابور حتى حاز المواقع الرئيسية، وتوسعت طموحات العائلة وتدخلاتها، وصار الطرفان على طرفي نقيض، فاستقوى الطابور بأسياده، وصارت العائلة ترتب للبقاء في السلطة دون سقف زمني وحالت دون أي إنتقال خارج دائرة القرابة.

وقد تفشى الفساد وتعمقت التناقضات وتولت مجاميع وظيفية إجهاض كل بديل وإصلاح ممكنين، وتحركت على نفس أرضية الفساد والإقصاء والإستئصال حتى لم تعد الدولة دولة وصار كل طرف يبحث مع من يكون وضد من يتحالف.

وحينما قامت ثورة الحرية والكرامة كانت معادلة الحكم دوائر حول أقطاب تتسابق كل منها لقطع الطريق على الآخرين، دون أن تتشكل نهائيا التحالفات وتتضح بجلاء موازين القوى.

وقد أنهى الشعب المنظومة المركبة والهجينة، ليمنح الفرصة للنخبة لإصلاح الدولة وأخلقة السياسة وتحرير الفضاء العام، وإنهاء العزلة والتهميش على الجهات، فالثورة كانت بمعنى من معانيها ثورة الجهات.

نعود للأستاذ الغنوشي العائد من منفاه لا يحمل حقدا ولا نية له في الإنتقام من شخص محدد.

عاد كحامل لمشروع هو مشروع الأعماق (تاريخا ومجتمعا وفكرا ). وقد تلاءم هذا المشروع "الحضاري"مع لحظة التأسيس. وهي لحظة مشبعة بمشروع الغنوشي الذي كان عليه أن يصالح الأصولية مع اللبرالية والإسلام مع الديمقراطية والاشتراكية مع إقتصاد السوق ووحدة الدولة مع توزيع السلطة.

وقد تمسك بشعار القطيعة مع الإستبداد والفساد دون أن يوفق وحركته في إيجاد المعادلة بين متطلبات القطيعة ومتطلبات المصالحة.

الربيع العربي عرف محطته الأولى في تونس وستبقى الثورة التونسية المجيدة من أهم أحداث القرن وبوابة للحداثة السياسية في بلدان "طبائع الإستبداد".

القدر وحده يعرف كيف استجاب لإرادة الشعب، والقدر وحده ساق تلك السيدة إلى محمد البوعزيزي رحمه الله ليوقد شرارة إنتفاضة شعبية. جاءت كغيث نافع بعد جفاف مميت. لقد كان إلتقاء النار بالجسد كالتقاء النفس الضمآنة للماء البارد والأرض الموات لمياه عين جارية أو أمطار سماء رحيمة.

هكذا أزهر الربيع بين تصحر ومطر ونار وماء.

أذكر جيدا قول الكثيرين بعد تبادل نسخ رقمية لكتاب "حاكمة قرطاج" وبعد تسريبات "ويكيليكس "قد نطقوا متسائلين: علاش ساكتين؟

لم يكن في الكتاب وفي التسريبات حقائق جديدة لا يعلمها المطلعون داخل الحكم والمعارضة.

صحيح أن الكثيرين كانوا يسيرون مغمضي العينين ويصمون آذانهم عن أي خطاب ينقد السلطة أو يطالب برحيلها طلبا للسلامة وخوفا من بطش محقق.

ولم يمنح البوعزيزي آلة القمع والتنكيل والتعذيب فرصة لقتله قتلا بطيئا حينما خامرته في لحظتها فكرة الصراخ والإحتجاج والتمرد وحسم المعركة بضربة خاطفة (راجع مقالي الحريق والتحليق)، وفي يوم 08جانفي وبسقوط شهداء تالة رحمهم الله بلغنا نقطة اللاعودة في إنتفاضة الشعب والشباب :إنها الثورة.

فشل ذريع في إدارة الأزمة. لقد صار التغيير حتميا لم يبق إلا إختصار المسافة والاقتصاد في الكلفة.

عندما أطاح بن علي بأول رئيس جمهورية لتونس في القرن الماضي، كان اليسار والليبراليون يائسون من التغيير هم فقط يشاهدون منظومة تتصلب ودولة تتفكك.

كانت حركة الإتجاه الإسلامي عنوان المقاومة الوحيد.

أرسل لنا عالم الإجتماع الدكتور عبد الباقي الهرماسي سؤالا عن طريق أحد طلبته (منذر عمار) هل تعي الحركة بأنها أول حركة تقاوم، لقد هزم النظام كل المحاولات السابقة؟

وقد حمل منذر عمار رسالتين مكتوبتين بخط اليد إلى أستاذه عالم الإجتماع الذي أصبح وزيرا فيما بعد إحداها بخط رئيس الحركة صالح كركر.

وبعد عامين من إزاحة بورقيبة وأثناء مناقشة أطروحة جامعية حول حركة النهضة، كان من بين أعضاء لجنتها في المناقشة عبد الباقي الهرماسي والطاهر لبيب، وقد إلتفت الهرماسي إلى زميله متوجها للجمهور في القاعة :"صديقي منصر الرويسي سألني في صائفة 1987 سي عبد الباقي ألا تلاحظ أن حركة الإتجاه الإسلامي هي أول حركة تقاوم [النظام]؟"

لقد كانت أشكال المقاومة هي المظاهرات وتوزيع المناشير وتحدي قوات القمع والحملات الإعلامية في الداخل والخارج، وتقديم المعتقلين والشهداء، وعدم التراجع أمام الحملات الأمنية والقمعية والمحاكمات السياسية.

لم تقطف الحركة ثمار تلك المقاومة لنفسها بل قطفها غيرها، ولكن البلاد تخلصت من كابوس جثم عليها ولم تعرف كيف تحقق إنتقالها السياسي، بسبب الصراع بين الشقوق داخل الحزب والحكم، وشيخوخة نظام تقلصت قاعدته الإجتماعية يسير وفق أهواء رجل يلقي سمعه لبطانة جشعة ومتهورة ومكيافلية.

كان الأستاذ راشد الغنوشي في الأثناء يقيم في عزلة بالسجن المدني بتونس وقد تجاوز عدد المعتقلين من حركته المئات.

كان بورقيبة يطالب بإعدام الغنوشي.

وقد صرح أحمد المستيري أحد أبرز قادة المعارضة الديمقراطية صبيحة يوم إصدار الأحكام من طرف محكمة أمن الدولة لإذاعة فرنسا الدولية :"إن الحكم على راشد الغنوشي بالإعدام سيكون خطأ لا يمكن جبره".

لم يكن زين العابدين بن علي وزير الداخلية آنذاك مؤيدا لإصدار حكم بالإعدام في حق زعيم الحركة، وقد توسط عن طريق أحد الصحفيين لدى القيادة لإقناع الغنوشي بتوجيه رسالة من سجنه إلى بورقيبة.

لم يكن ذاك رأي بن علي وحده ولم يكن هناك من مدخل للحديث مع بورقيبة أفضل من حمل رسالة من الغنوشي.

وقد رفض الشيخ أن يتراجع أو يتنازل قيد أنملة وذهبت المبادرة أدراج الرياح.

لقد إختار الغنوشي مواجهة حبل المشنقة وبعث لحركته برسالة : "لأن أخرج محمولا على نعش خير لي من أن أطلب العفو ممن ظلمني"

علاقة راشد الغنوشي بالإيديولوجيا جديرة بالاهتمام، وهي تحيلنا على تعامله الفكري مع الموروث الفقهي والكلامي والفلسفي.

وهو تعامل يتسم بالنقدية غير العنيفة والتأليف بين عناصر تخفف من كثافة الطبقة الإيديولوجية التي تفصل بين العقل والنص، وهي تتجنب التقابل المصطنع بين العقل والإيمان.

وبإيمان إنسان العصر الحديث، حاول الغنوشي أن يكون حارسا للنص، إذ أن الإسلام حسب فهمه مهدد في عقر داره.

مهدد بمن يفهمونه فهما تراثيا، ومن يفهمونه فهما جزئيا، ومن يحملونه مسؤولية تأخر الأمة وتخلفها وإنحطاطها.

وهؤلاء أكانوا من أتباع المذاهب أو من تلامذة المستشرقين أو من أتباع الماركسية فالنتيجة واحدة : إسلام طقوسي وتدين منبوذ ومنفصل عن العصر.

وهل يكون التدين معاصرا ؟

إجابة الغنوشي هي نعم. فلا فصل بين الدين والحياة. وإذا عهدنا للدين بأن ينظم حياتنا، فلا ينبغي أن نقصره على الطقوس والأشكال ونستدعيه في المناسبات فيصبح فلكلورا، أو نلوذ به عند العجز لنلقي أسباب فشلنا على القدر، أو نتوسل به لرفض أي تغيير فنترك المبادرة الحضارية للأمم الأخرى ونرى كامل منتوج الحضارة كفرا وضلالا ومصدر فتنة.

لم يجعل الغنوشي من جماعته جهازا إيديولوجيا ولا ملاذا للمتعبين حضاريا.

بل كون مدرسة سياسية على مسافة نقدية من حركة الإصلاح وتيارات التغريب والإستشراق.

لقد كانت البداية ببعث مجلة فكرية تكون ملتقى ومنتدى حواريا يهتم بقضايا المسلم المعاصر والإنسان الجديد.

وقد تطورت تجربة الغنوشي الدعوية والفكرية بتجاوز التدين التقليدي التونسي والثقافة الزيتونية ببعدها المذهبي والعقدي.

تفطن الغنوشي مبكرا أن أسلوب جماعة الدعوة والتبليغ أسلوب قاصر، وأن طيبة الدعاة لا تعني بساطة الحياة، وأن سحب الفرد من منظومة المجتمع وتسليمه للمسجد لا يعني أن المجتمع تغير.

كما تفطن مبكرا إلى أن رفض المذهبية والتحرر من التقليد لا تعني إلا وقوفا عند منتصف الطريق، إذا لم ينتقل المقلد إلى منظومة فكرية تستوعب الإختلاف وتتخير من المذاهب وتصالح المسلم مع العصر.

كما تفطن مبكرا إلى أن هجرة الجاهلية إلى العقيدة، وهجرة الخرافة إلى التوحيد، لا تنهي غربة المسلم وعزلته. لذلك إنتقل إلى فهم للإسلام باعتباره مشروعا حضاريا، أي سؤالا عن الوجود، وإجابة عن المصير، وطريقا للتقدم، وبديلا عن أزمة إنسان ونظام ومجتمع.

كانت تأملات الغنوشي الشاب تتمحور حول مناهج التغيير الإجتماعي وقوانين التقدم وشروط النهضة.

واكتشف مبكرا مشكلة الحرية ودورها في بناء الإنسان والحضارة.

ورغم أن جهازا إيديولوجيا بكامله إحتضنته الجامعة لتفكيك البنية الفكرية لمشروع الغنوشي السياسي، إنخرطت فيه كبار العقول، ورصدت له ميزانيات ضخمة، فإنه لم يفلح في إيقاف إستمرار مدرسته السياسية، لأنه جعل جوهر مشروعه الإسلامي ومدار نضاله الطويل الحرية.

ولم يصل الغنوشي لجوهرية قضية الحرية بطرق ملتوية. لقد أدركها بالفطرة ... فطرة إنسانية، مثلما إكتشف ديكارت الكوجيطو، وطرح من حسابه كل أدبيات التنظير والتبرير للإستبداد باعتبارها نقيض فهمه للإسلام ونقيضا للإسلام كما فهمه والتزم به عقيدة وفكرا ومنهجا.


تاريخ أول نشر 2023/9/1