search

ملاحظات سريعة حول حوار الزيتونة مع أمين محفوظ

كل الشكر للإعلامي المتميز عامر عياد على مهنيته وشجاعته في "اقتحام" كل الأبواب من أجل تقديم مضمون إعلامي تفرضه المرحلة وتفرضه المسؤولية الإعلامية.

السيد أمين محفوظ يعاني من تصورات محنطة في ذهنه في ثلاث مجالات حسب ما ورد في حواره اليوم.

التصور الأول هو تعريفه للديمقراطية وما تقتضيه. وهو تصور يربط بين الديمقراطية كأداة ( ولو أن لها فلسفتها) وبين الإيديولوجيا التي تتحكم فيها. بالنسبة لأمين محفوظ لا وجود لديمقراطية خارج المفهوم اليعقوبي العلماني الفرنسي لها. وهذا وإن كان له الحق أن يتبناه كشخص، إلا أنه في جوهره مفهوم إقصائي بامتياز مهما كان الطلاء الخارجي له، سواء بإعلان القبول بالجميع أو الحديث عن الأخلاق والإطناب في ذلك كما يظهر من حواره اليوم.

التصور الثاني وله صلة وثيقة بالتصور الأول، وهو مفهومه للدين وفهمه للعلاقة بين الدين والدولة. وهو مفهوم مستورد من نفس المعين العلماني اليعقوبي الفرنسي. للأسف في نقطة جزئية تعرض السيد أمين محفوظ إلى تدريس التربية الدينية في المدارس، معتبرا أن الديمقراطية تتنافى وتدريس التربية الدينية ! معارضا بذلك حتى فرنسا نفسها التي وإن كان تعليمها العمومي لا يقدم مادة التربية الدينية، إلا أن المدارس الدينية الخاصة المسيحية أو غيرها تقوم بذلك وبحماية القانون الفرنسي، مع التضييق طبعا على المدارس الإسلامية.

في هذين التصورين يتجاهل أمين محفوظ التعريفات والتطبيقات المتعددة للديمقراطية في البلدان الغربية نفسها، والتي تختلف مع النموذج اليعقوبي الفرنسي اللائكي المفرط في مركزيته.

وفي حين لم ينقطع الجدل العلمي الأكاديمي في مجالات العلوم الاجتماعية والانسانية في هذين الموضوعين، يقدم أمين محفوظ تصورا أحاديا مضيقا ينم عن ضيق أفق وتحجر معرفي لا يليق بأستاذ جامعي فضلا عمن له علاقة بالشأن السياسي.

التصور الثالث هو الموقف من حركة النهضة. وهنا تبرز آثار التصورين السابقين، وتبرز المغالطات التاريخية، والتحامل والتجني، رغم "وداعة" سي أمين محفوظ. أن يحمل النهضة وزر المرحلة كلها من يوم 15 جانفي 2011، وأن يتغاضى عن الدور المركزي الذي لعبته هيئة ابن عاشور وهو عضو فيها وقد كانت النهضة فيها أقلية. وأن يحمل النهضة أوزار كل ما صدر منذ 15 جانفي 2011 إلى 25 جويلية 2021 هو تجن فاضح وكل الأحداث تكذب ذلك. بل إن الوقائع أثبتت أن النهضة كانت الحزب الديمقراطي رقم واحد في البلاد.

لقد فهمت الآن كيف أن نص المبادرة قد خلا من كلمة الاسلام جملة.

والحقيقة أن رؤية أمين محفوظ أثبتت ما كنت أراه من أن معركة الهوية لم تحسم بعد، وأن أسوء ما نعانيه هو أننا أمام جزء من النخبة غير قابل حتى لإمكانية "تعايش الهويات"، ما دام لا يرى للديمقراطية إلا تعريفا واحدا، وأن ذلك التعريف يجب أن يرتكز على مفهوم واحد لعلاقة الدين بالدولة.

والحقيقة أيضا أنني أتفهم الآن كيف أن أمين محفوظ لم ير في دستور 2014 خيرا، بل واعتبره جزءا من انقلاب النهضة، الذي بدأ من 15 جانفي 2011 !!!!

الدستور الذي أسس لصيغة تعايش مثلى، ولبناء ديمقراطي قائم على فصل السلط والتوازن بينها، وعلى الحكم المحلي، وضمان الحريات جميعها، وتم صياغته وإقراره في مناخ تداول شعبي وإعلامي، وشاركت في إثرائه كل مكونات المجتمع التونسي، وتمت المصادقة عليه بما يقارب الإجماع بعد حوارات عميقة وتوافقات بين الكتل البرلمانية ، ذلك الدستور لم ير فيه أمين محفوظ إلا أنه دستور فرضته النهضة !!!!!!!

الغريب أن أمين محفوظ يريد أن يعوض طريقة صياغة وتزكية ذلك الدستور بدستور "قبلي" يعده "خبراء" ثم يستفتى فيه الشعب. وكلنا نعرف أن الاستفتاء في تعريف كثير من فقهاء القانون الدستوري هو "ديكتاتورية مقنعة" مع أنه لم يذكر كلمة استفتاء حتى ... وإن كان ولا بد، فما الأفضل ؟ أن يعد الدستور برلمان منتخب انتخابا حرا مباشرا، في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، ثم يعرض على الاستفتاء لتزكيته؟ أم تعده نخبة ثم تمرره إلى الاستفتاء أو تفرضه بمرسوم رئاسي بدعوى إعداده من طرف خبراء؟

كل النصوص والمقترحات التي تقدم بها أمين محفوظ وأمثاله من القانونيين، يفضلون الصيغة الثانية لأنها الصيغة التي تضمن لهم ممارسة ديمقراطية حسب تعريفهم الإقصائي والوصائي لها.

لاحظت أن أمين محفوظ يعتمد في عرضه لمواقف النهضة صورا، وينتحل وقائع هي أبعد ما يكون عن موقفها. منها التعريف الذي نسبة للشيخ راشد حول الديمقراطية، ومنها ادعاؤه سبب اعتراض نورالدين البحيري عند اعدادهم لقانون المحكمة الدستورية والذي أجزم أنه لا يمكن أن يصدر عنه بتلك الصيغة.

لاحظوا ذكره المتكرر لتجربة جنوب إفريقيا. يبدو لي أن أهم ما فيها بالنسبة له - إن كان ما عرضه دقيقا - هو أنه تم فرض صيغة معينة للديمقراطية على البرلمان، وإخضاع البرلمان لسلطة محكمة دستورية يتم اختيار أعضائها من طرف الرئيس وحده، وليس للأحزاب إلا التقدم بقائمة من الشخصيات كمقترح للرئيس يختار منها ما يشاء ويدع ما يشاء!

ختاما أقول إن المشكلة مع السيد أمين محفوظ والسيد عياض بن عاشور وأضرابهما من "المدرسة الدستورية التونسية" ذات الهوى العلماني اليعقوبي، هو في فهمهم وتعريفهم للديمقراطية، حتى لا أقول في عدم إيمانهم بالديمقراطية.

تاريخ أول نشر 26/10/2025