search

من جديد ... السياسي التونسي والترهدين

استمعت لحوار الصديق الدكتور منذر الونيسي مع كشف ت.في. بانتباه شديد، كما استمعت لفيديو الفة الحامدي رئيسة حزب الجمهورية الثالثة تعليقا على مذكرة التفاهم ... تقديري أن الموقفين كانا موفقين عموما في نقد الانقلاب، لذلك شاركتهما أصدقاء صفحتي والمارين بها ...

ومع ذلك فلي ملاحظات طالما أبديتها على الممارسة السياسية للأحزاب وللمشتغلين بالسياسة في تونس.

ورغم أن جزء من السلوك السياسي يمثل في حقيقته انعكاسا للشخصية التونسية الأساس، قد لا يرجى تغييره، إلا أن الوعي به على الأقل مسألة ضرورية لحسن التعاطي مع الأحداث، استشرافا لمآلاتها، وعملا قد يكون من قبيل النحت في الصخر لإحداث انعطافات في العقلية، ولكنه مطلوب وإلا تحولت الحياة إلى جبرية مطلقة.

المتأمل في "مرفولوحيا الخطاب" أو مظهره الخارجي، والمقصود بذلك ما يشحن به الخطاب من أدوات الوصف والتوصيف والتقريب والتغليب ومن أساليب البلاغة والتبليغ ... يرى فيه أن السياسي التونسي الرهدان يعمد إلى قول الشيء ونقيضه، ويتجنب الوضوح في الأحكام، بل يعمد إلى التشويش على الأحكام التي يصدرها بنفسه في نفس الخطاب ... وإذا أردت أن تحاكم خطاب السياسي الرهدان إلى القواعد المنطقية، وجدته بدون عناء ينقض بعضه بعضا، ويهدم بعضه بعضا ...

لا يفتأ السياسي الرهدان ومناصروه من الإشادة بقدرته الفائقة على المراوغة، وقدرته على قول ما يريد دون أن يستطيع خصمه وخاصة الحاكم أن يجد في كلامه ما يمكن أن يؤاخذه عليه قانونا ... وهو هاجس يحول مضمون الكلام إلى لا شيىء ... غير أن السياسي الرهدان يتناسى أنه بذلك قد أجهز على موقفه وحوله إلى مادة تخدم خصمه.

ماذا يفيد أن تصف ما حصل انقلابا، ثم تمعن في التأكيد على أنك تحترم وتجل ولا تمس من مقام المنقلب، وتؤكد ثقتك في سلامة نواياه أو أنك لا تحكم عليه من خلالها، وأنك مستعد للحوار معه، وأنك ضد الفحش في القول والتنابز بالألقاب ... كل هذا الخطاب الذي يبدو مقبولا في عمومه، يتحول في داخل الحوار أو الخطاب إلى ضرب لمضمونه الذي يتحدث عن انقلاب عن الدستور وعن الشرعية.

يخلط السياسي الرهدان بين التوصيف الذي وإن كان مرتبطا باحكام أخلاقية إلا أنه توصيف قانوني، وبين التوصيف الاخلاقي الذي يعتمد فاحش القول وبذيئه، ويتجاوز الحكم عن الأفعال إلى الحكم على الشخص في أصل خلقته أو في مظهره أو يقذفه بما لا يجوز من السلوكات والممارسات التي تعد طعنا في الشرف والذمة بدون بينة .... أن تصف سلوك منقلب بالخيانة هذا ليس سبا، وأن تصف سلوك حاكم بالكذب عندما يكذب هذا ليس سبا، وأن تصف سلوك سياسي بالغدر أو بالتآمر عندما يقوم بذلك فهذا ليس سبا ... وأن يمتد حكمك على شخص، من الحكم على سلوكه إلى حكمك على فكره ومقاصده ونواياه، هذا ليس اعتداء أو رجما بالغيب عندما تتوفر شروط ذلك ... فالسيف الذي يرفع دائما عندما يتجاوز الإنسان الحكم على السلوك إلى الحكم على المقصد ليس دائما في محله، بل إنه أحيانا يرفع لانتزاع حجج قوية في الإدانة ... ولو طبقنا هذه القاعدة العرجاء لهلك الاجتماع الإنساني.

هناك خلط لدى السياسي الرهدان بين "القول الحسن" وبين "القول السيئ" ... أن تقول قولا حسنا خاليا من الفحش لا يعني أن لا تقول قولا "مؤذيا" ... فالحقيقة مؤذية أكثر من القول الفاحش ... وأن تهادن معتديا أمعن في اعتدائه، واستفرغت الجهد في تنبيهه وثنيه عن غيه، لن يلتفت إلى مداهنتك ما لم تلعق حذاءه ...

يغالط السياسي الرهدان نفسه ومن حوله، حين يستهين بتشابك البنى التي ينتجها السلوك السياسي الموضوعية والمعنوية منها، ويتوقع أن مجرد التلاعب بالخطاب، قادر على زحزحة مركب المصالح والعلاقات التي أنشاها حدث الانقلاب وتعمقت مع استمراره.

كل هذا لا يعني أنه لا يوجد حوار أو تواصل أو تكتيكات كيفما كان نوعها في السياسة .... كل هذا من صلب الممارسة السياسية ولا توجد في السياسة "محرمات" ... إذ يمكن لك أن تحارب خصمك وتفاوضه في نفس الوقت، كما يمكن لك أن تمارس معه كل ما تجيزه السياسة واقعا و"يتبهلل" السياسي الرهدان بالتحذير منه والإنكار عليه .

لكن كل ذلك يتم على هامش الموقف السياسي الأساس، الذي لا يجب أن يحيطه الغموض والتردد والتناقض، وإلا أوهن كل ذلك الممارسة السياسية، ومد حبل النجاة للخصم حتى ولو كان في "ظلمات في بحر لجي ".

قد تقودك عملية إدارة الصراع إلى التنازل، ولكنك تفعل ذلك بوضوح، من قبيل الرضا بالهدنة أو بتنازلات متبادلة ... ولكن كل ذلك دون المس من وضوح الموقف وصلابته ... ذلك أن ما يقف خلف الممارسة حاكما عليها، ليس فقط نتائجها كما يقول البراجماتيون، وإنما ثباتها على المبادئ والتزامها بالقيم ... وكل ممارسة تنجح في الواقع، ولكنها تنتهك مبادئها وقيمها التي انطلقت منها، تنتهي إلى خسران مبين ولو بعد حين.

تاريخ أول نشر 2023/7/20