search

موسم الهجرة للجنوب

أمام تصاعد موجة العنصرية في أوروبا وتصدر أحزابها نتائج الانتخابات في كثير من البلدان وكذلك انتخابات البرلمان الأوروبي، وأمام تصاعد نجم الشعبوية في أمريكا والاحتمال الكبير لفوز ترامب وعودته للبيت الأبيض ببرنامج لا يقل عنصرية تجاه الأجانب وخاصة منهم المسلمين، أمام كل ذلك تقتضي اليقظة الاستراتيجية الاستعداد لبدائل محتملة ودون أن يعني ذلك التخلي عن "المقاومة" والدفاع عن الوجود في بلدان "بعض خيرها" من أكتاف المهاجرين وأبنائهم ...

أجيال تعاقبت من أبناء المهاجرين الذين فتحت أعينهم على تلك البلدان وتربوا في مؤسساتها وشوارعها وبعضهم لا يكاد يعرف لغة غير لغتها .. هؤلاء لا يعرفون أوطانا غيرها... لهم واجبات تجاهها أدوها ويؤدونها كما لهم حقوق من واجبهم الدفاع عنها ... لكنهم سيعانون وهم الآن يعانون من التمييز في بعض البلدان ... حدثني صديق أن ابنه تخرج بامتياز من أعرق المؤسسات الجامعية والمفروض أن تخصصه ونتائجه تمكنه من الولوج إلى مؤسسات مهمة في الدولة ولكن محاولاته جميعا باءت بالفشل ... يبدأ مسار الانتداب واعدا مبشرا ثم يسقط في آخر المحطات.

في المقابل إفريقيا مخزون العالم الأكبر في باطن الأرض وعلى سطحها، والتي كانت تخضع لعملية نهب متوحشة، تشهد حركة تحرر ثانية أكثر وعيا من خلال أجيال تعلمت وعانت، تقودها الآن أشواق الحرية، وتصارع قوى النهب المختلفة من أجل أن تستمتع بخيراتها. ففي الوقت الذي تواجه فرنسا عملية تحرر من نفوذها، كما يضيق على غيرها من دول العالم الغربي، تعمد تلك البلدان إلى لعبتها المفضلة من خلال تدبير الصراعات والحروب داخل كل بلد وبين البلدان.

تحاول قوى العالم الشرقي ولا سيما روسيا والصين الاستفادة من روح التحرر الافريقية، من خلال مد يد العون لتلك البلدان، كي يكون لها موطئ قدم في القارة. وبالنسبة لروسيا استعادة بعض النفوذ القديم لها وهي لا تتورع عن التحرك بنفس آليات الغرب من خلال "فاغنر".

تلعب اسرائيل دورا كبيرا في القارة وتستهدف مصالح البلدان الاسلامية داخل القارة وخارجها وفي المقابل فإن الدور العربي إما مفقود أو يصب في مصالح الغرب.

تتحرك تركيا بدرجة أولى وإيران بدرجة أقل في القارة، تستثمران فيها وتبنيان مصالح استراتيجية وتؤمنان ما وصلتا إليه، ويفقد العرب شيئا فشيئا مصالحهم من خلال ترك تلك البلدان ولا سيما العربية والاسلامية منها لمصيرها ولمستقبل قاتم، وعلى رأس تلك البلدان السودان الذي تقوم دولة الإمارات بدور محوري في تدميره وتفتيته خدمة لمصالح الغرب والصهيونية.

فقدت مصر الانقلاب مكانتها الإفريقية، وتركت ظهرها عاريا للعدو، وقبلت بأن تلعب إسرائيل بحديقتها الخلفية، وتعرضها لأسوء تحدي استرتيجي متعلقا بنهر النيل وتفتيت السودان.

وفي حين تحولت ليبيا إلى مسرح صراعات ضمن نفس المسار الافريقي، تبدو محاولات الجزائر للحفاظ على مكانتها متواضعة، وفي المقابل تبدو المغرب الأكثر وعيا واستفادة، من خلال تثبيت علاقاتها التاريخية الاقتصادية والديبلوماسية بالقارة، ولكن بدون شجاعة مطلوبة في لعب دور أكثر جرأة في القارة.

أما تونس الانقلاب فقد تراجعت عن محاولات الحضور التونسي في إفريقيا التي بدأت من قبل الثورة و استمرت بعدها.

غني عن التأكيد أنه بدون استرتيجية موحدة عربية أو على الأقل شمال إفريقية فإن محاولات التأثير والاستفادة تظل قاصرة ومحدودة الأثر.

لقد لعبت عقود "الاستلاب" التي سيطرت على المغرب العربي في الوعي بأهمية القارة، مقابل الافتتان بـ"الشمال" الذي لم تجن منه إلا مزيد الارتهان له مقابل مردود محدود من "المهاجرين" ومن "السياحة".

لم ندرك أن إفريقيا هي عمقنا الحقيقي وأن الرباط الذي يجمعنا بها أعمق بكثير مما روجته لنا الثقافة المبتسرة حولها والتي جاءنا أغلبها مترجما من ثقافة "الشمال".

وأنا أتابع بودكاست "حكايات إفريقية" للإعلامي أحمد ولد فال، أدركت إلى أي حد ظلمنا إفريقيا وظلمنا أنفسنا ... إفريقيا قارة تختزن جزء مهما من تاريخنا وثقافتنا، ولا يقل اعتزازها بالاسلام والعربية كلغة عن اعتزازنا بهما. ولو التفت العرب لها وعملوا متحدين وفق استراتيجيات تعاون متبادلة المصالح، لحلت الكثير من مشكل الطرفين الاقتصادية والاجتماعية بأفضل مما أنفق كليهما من الجهد والتذلل وماء الوجه للمستعمر الغاصب الذي لم يفلح القناع الذي غطى به وجهه القبيح بعد ما سمي بـ"الاستقلال" في إخفاء حقيقته المتوحشة.

إنه موسم الهجرة للجنوب ... الجنوب الذي فيه مستقبلنا ... الجنوب الذي لنا معه وشائج قربى عميقة تمتد لآلاف السنين ... الجنوب الذي يحتاج مواردنا البشرية ويحتاج خبراتنا وشركاتنا لإعانته على استثمار خيراته وتقاسم منافعها بما يحقق مصالح الجميع.

في عهود عزتنا الحضارية وضع الإدريسي وغيره من علماء الجغرافيا خريطة العالم بجعل جنوبها في أعلى وشمالها في الأسفل، وكان من الطبيعي أن يقلب الجغرافيون الأوروبيون الخريطة واضعين شمالهم أعلى وجنوبنا أسفل. حركة رمزية قد لا يكون الإدريسي فعلها متعمدا فقوة الحضارة الإسلامية يومئذ تفرض نفسها أما اليوم فعلينا أن نتسلح بوعي جديد يعدل اتجاهات البوصلة نحو عمقنا ومستقبلنا.

رحم الله الطيب صالح ... لا تثريب عليه فقد صور الواقع كما كان ... ولو كتب يومها "موسم الهجرة للجنوب" لهجاه الأصحاب والخلان.

تاريخ أول نشر 2024/6/26