نحن البلد الذي ضمن دستور ثورته في فصله السادس "حرية الضمير"، كما تلتزم الدولة فيه بمنع دعوات التكفير وبالتصدي لها.
وهي بالنسبة لنا كشعب مسلم ودولة مسلمة، تعني ضمان حق الكفر والخروج على الاسلام، وبالطبع حق التأويل المطلق للإسلام بأي وجه من وجوه التأويل ارتآه صاحبه، حتى ولو كان ذلك تأويلا شاذا تأباه قواعد اللغة والأصول المعتمدة.
لم يكن الغرض الأساسي من وضع تلك المادة إلا هذا. وكلنا تابعنا المناخ الذي صيغ فيه هذا الفصل، الذي اتسم بالتوتر الشديد، بل بالإرهاب النفسي، الذي كان القصد منه فرض إطار دستوري يحمي قلة من المجتمع غير قادرة على الظهور بوجهها العاري أمام الجميع، و تريد أن تمنع عن غيرها التعبير عن قناعته التي تخالف قناعتها.
لكن النواب المحافظين في المجلس التأسيسي، سحبوا البساط من تحت أرجل من أرادوا أن يمنعوا الثورة من كتابة دستورها وقبلوا الفصل، على أساس أن الحرية هي أصل التكليف، وأن الله لا يقبل الإسلام إلا من الإنسان الحر. وتلك الحرية كما أنها شرط في إسلامه فإنها تمنحه بدون شك حق الكفر. والأدلة من القرآن على ذلك كثيرة ترقى دلالتها إلى مستوى "النص" بالمعنى الأصولي، ومنها : "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" و" لست عليهم بمسيطر" الخ. كما أن الإسلام يعتبر النفاق أسوء من الكفر، ولذلك فإن كفرا صريحا أفضل للمجتمع من نفاق عقدي أو سلوكي.
لكن تنزيل الحرية في الفضاء الاجتماعي يحتاج إلى موازين قادرة على وضع مدونة سلوك تجعل حريات الأفراد تتعايش، وهي مسألة وجودية تماما كالحرية.
الإسلام وضع لنا قواعد سلوك تضمن التعايش والمساكنة والأنس بالعشير - كما يقول ابن خلدون - وعدم افتئات الناس بعضهم على بعض.
خلاصة تلك القواعد السلوكية، أن الفضاء العمومي هو الفضاء الذي يحكمه ما تواضع عليه المجتمع من السلوك.
وعندما كان سلطان الشريعة حاكما، كانت المجاهرة بالمعاصي تعتبر تعديا على المجتمع قبل ان يكون تعديا على شرع الله، بدليل ان الفرد يمكن له أن يمارس المعاصي خلف الأبواب المغلقة، ولا يسأل ولا يساءل عن ذلك.
وعندما كان سلطان الشريعة حاكما، كانت تستثني تنفيذ أحكامها على غير المؤمنين بها، مما يعني انها تسمح لغير المسلمين بممارسة حياتهم وفق شرائعهم.
والدارس للتاريخ الاجتماعي للحضارة الاسلامية، يدرك أن المجتمع كان يغلب عليه التسامح، فيغض الطرف عن ممارسات مشينة، أو فيها تعد عن الآداب العامة، ويتغافل عن ممارسات إذا كانت هامشية. وكتب التاريخ طافحة بأمثلة من هذا القبيل.
فترى المعروف بسلوكه المنحرف، يعيش بين الناس، ويتعاملون معه، طالما لم يكن مجاهرا بمعصيته، ولا داعيا لها ومحرضا عليها. بل لا يعدم أن يكون له أصحاب وأصدقاء، يناقشونه ويحاورونه، أو يعظونه وينصحونه. وفيهم من يرونه مبتلى فيدعون له بالهداية ويرقون لحاله.
ورغم انحسار سلطان الشريعة شيئا فشيئا على مستوى القضاء والتشريع. فقد بقي اعتبار كل ما يخل بالآداب العامة أو بما ينافي الحياء أو ما يمس من الأمن العام والنظام العام ممنوعا بالقانون.
ورغم كل الإيمان الذي يقر به الجميع بالحرية، إلا أن ممارستها ظلت دائما محل جدل بينها وبين حق المجتمع في الاستقرار والأمن والتعايش، وأيضا حق الآخر في التمتع بممارسة حقوقه، بدون أن يعتدي على حقه في ممارسة معتقده أحد. فحرية الضمير وجدت جنبا إلى جنب مع حرية المعتقد، والاعتقاد سلوك متعدي بالضرورة، وليس مجرد إيمان قلبي كما يزعم البعض. لذا كان لا بد من وضع قواعد سلوك تضبط حدود حرية الفرد، وإلا انخرم نظام المجتمع.
في العقود الأخيرة جندت عقول حبارة، وصرفت ميزانيات ضخمة بمئات الملايين بل المليارات، وأسست مؤسسات دولية وإقليمية ومحلية، وتشكلت شبكات تأثير ونفوذ واختراق لمؤسسات المنظمات الدولية، ولمؤسيات صناعة القرار في الدول الكبرى الغربية، وفي الدول التابعة لتجعل من الحرية الفردية سلطانا على كل شئ. ولتفرض من خلال ذلك الشعار اجندات تمكين للمثلية والشذوذ الجنسي، واعتبارها أولا شيئا طبيعيا، وثانيا له حقوق ثابتة وكاملة، تقتضي أن تتغير لصالحه كل المنظومات الأخرى، بدء من الأسرة وانتهاء بكل زوايا التواجد الإنساني المجتمعي والمؤسسي. وإمعانا في التمكين لهذا الشذوذ، تم فرض حقوقه في المواثيق الدولية والقوانين، وتم جعل سن تلك القوانين أو تعديلها شرطا في التعاون بين الدول، وشرطا للحصول على الهبات والمنح والقروض.
ولقد تجندت لهاته المهمة بعض دوائر المال والأعمال العابرة للقارات، ورجال سياسة نافذون في الأمم المتحدة والدول جميعها، ناهيك عن رجال الفكر والأكاديميا والثقافة والإعلام. واصبح التعرض لهاته الفئة بأي نقد يجعلك عرضة للمحاسبة حتى القضائية بتهمة الوصم والتمييز وما إلى ذلك.
العجيب ان ذلك اللوبي الرهيب، قد تغلغل في منظمات الأمم المتحدة، يراقب كل اتفاقية وكل قرار وكل نص وكل بيان وكل نشرية وكل كتاب، من أجل أن يحتوي بطريقة أو بأخرى عما يؤكد وجودهم وحقهم، وخلوه من أي إشارة مهما بدت مكتوبة أو مصورة لما يمس من "كرامتهم"! وبذلك فقد تم "استئصال" كل الأسماء والصفات القديمة والتي تحمل معنى سلبيا، واستبدالها بأسماء وصفات محايدة أو حتى إيجابية أو حتى "هجومية" مثل "كويري" التي تتضمن رفض التحديد الدقيق والمحدود للهويات، بل إنها تشمل كل ما يخرج عن الانماط الجنسية والحندرية السائدة، حيث كل ما يخطر على بالك من الممارسات الشاذة أو المحرمة يعتبر طبيعيا، بدء من اللواط إلى السحاق إلى لواط أو سحاق أو زنى الأطفال أو الممارسة الجنسية مع الحيوانات، الى ما ليس له حد مما يمكن ان يصل إليه السلوك الشيطاني. وفي هذا الإطار أيضا تأتي كل عمليات الهدم الممنهج للاسرة الطبيعية نحو أنماط من الاسر لا يربطها بمعنى الأسرة أي رابط.
وإذا كانت هذه الحركة الشيطانية تتمدد مذللة بشكل ملحوظ العقبات أمامها في الغرب، فإنها لا زالت تلاقي صدودا ومقاومة في الشرق بصفة عامة، وفي عالمنا اللإسلامي بصفة خاصة، رغم الضغوط التي تمارس علينا كما أشرت.
وقد تجندت في نفس الإطار نخب نافذة في دولنا لتمرير هذه النزعة، ويمكن فقط التذكير بلجنة الحريات التي كونها الباجي قائد السبسي، ومن اطلع على تقريرها، يدرك جيدا ما أشرت إليه من خطط وتكتيكات واستراتيجيات تلك الحركة، وكيف تسللت إلينا تحت عناوين يمكن ابتلاعها وجندت لها أسماء تافذة.
وهكذا هي الدعوات التي تبدو ظاهرها فيه الرحمة و لكن باطنها من قبله العذاب.
تاريخ أول نشر 2025/9/20